[نشرت هذه الدراسة بالإنجليزية ضمن منشورات ”معهد رويترز للدراسات الصحافية“ التابع لجامعة أوكسفورد. ترجمها لجدلية شكري رحيَم بالاتفاق مع الكاتب ]
مقدمة
نحن في خِضَمّ سردية تزاحمُ أخرى وتناكفُها على رواية مجريات الحروب في كل من سوريا والعراق فالقوى المتحاربة تغزل قصصاً تناسب سعيها إلى ما ترى فيه تقدماً لها ونصراً مرجواً. ما هي القصة؟ هي غالباً ما ترشقُ به تلك القوى المتحاربة الجنودَ لإقناعِهم بأن يَقتلوا ويُقْتَلوا، والمهزومين لإقناعهم بعدم المقاومة، وكل مَن عدا هؤلاء وأولئك بأن هذا هو المسار ولا بديل. الاعلام أيضًا يروي مجريات الحرب، البعض منه يقول إنه محايد غير منحاز، والبعض الآخر يجاهر بالانحياز إلى قيمه ومثله. لكنّ الإعلام، بوسائله ومؤسساسته جميعا، يدعي السعي لإدراك شيءٍ من الحقيقة وإيصاله حولَ ما تشهده أرض العراق وسوريا وسماؤهما من أحداث. لكنّ كلا من القوى المتحاربة يريد لروايته هو حول الحقيقة أن تسود وتبرز في الإعلام كما سردها. تتناول هذه الدراسة التأثيرات التي تخلّفها هذه القوى في الإعلام فيما هي تجهد لفرض دمغتها على فهمنا الجماعيّ المتخيَّل للحرب.
سوف نبدأ في الفصل الأول بتفحُّص التغطية الأخبارية لمعركة تكريت في الإعلام الغربي المهيمن (mainstream)، ومن ثَمّ في الإعلام العربي المرتبط بما يعرف بـ"محور المقاومة". ننتقل في الفصل الثاني إلى تناول بعض تعليقات الرأي التحليلية على نفس المعركة – تكريت - وفي الميدانين الاعلاميين إياهما.في الفصل الثالث نلقي نظرةً إلى "البحيرة المّرة" (Bitter Lake)، الفيلم الذي أنتجته BBC في العام (2015) والذي يبدأ في العام 1929 في "كثبان رمال الجزيرة العربية" وينتهي في العام 2014 في العراق وسوريا، في تزامنٍ تقريبيّ مع بداية قصتنا. تمشيًا مع ما تبغيه هذه الدراسة سوف يتم التركيز على المضمون الذي يرشح من النص (السكربت)، وسأغفل مضطراً المعاني الغنية التي نتلقاها عبر المقاطع المشهدية والموسيقية وسائر المؤثرات الفنية. في الفصل الرابع نتناول أخباراً حول العراق وسوريا كما وردت في الوسائل الإعلامية لتنظيم الدولة الاسلامية. كل فصل من الفصول الأربعة يشتمل على نظرة عامة إلى التغطية الأخبارية ومن ثَمَّ أوردُ ملاحظاتي المُستَخْلَصة. يلي ذلك بعضُ ما خرجتُ به من استنتاجات، لأنتهي إلى ملحقٍ يقاربُ أكثر المواضيع حساسيةً ودقةً وهو مسألة النيات والمعتقدات الكامنةِ في أذهان مَن يَصوغون الأخبار ويتداولونها. في كل هذا المسار التحليليّ سأحاولُ استكشاف تقنيات حَرْفِ المعاني والتلاعب بها وبالذاكرة وتمرير رموز أخلاقية مُضمَرة، مروراً بألاعيب السحر بغيةَ صرف الأنظار عن الحدث الحقيقيّ. كذلك سوف أتطرق إلى العمليات الفكرية، واعيةً كانت أو لا واعية، التي تبثها قصةٌ بعينها في ذهن المتلقي او تؤدي الى حجبها عنه.
ولكن، عوداً على بدء، ما هي القصة؟
فلنبدأ بأن نلقي جانبًا كل ما ليس من جوهرها. نحن نتلقى القصص من الأفلام أو على المسرح، كلماتٍ أو صوراً، رسوماً أو لوحاتٍ فنيةً. قد تُختصَر بتغريدة على تويتر وقد تمتد إلى حجم الملحمة، قد نسمعها على الراديو أو نشاهدها على الشاشة الصغيرة، نقرأها في الصحف اليومية أو المجلات الدورية. قد تكون تراجيدية او كوميدية، تاريخية أو مستقبلية، هزليةً أو خيالية، وقد تكون مزيجًا من كل هذا وذاك أو أكثر. ولكنّ القصةَ لا ينحصرُ تعريفُها بأيٍ من هذه الفئات، اذ إنها تبقى قصة قائمة بذاتها. ماذا يبقى إذًا؟ في كتابه "شعريّةُ النثر" (The Poetics of Prose) يفتح تودوروف نافذةً على ما يسمّيه "قواعدَ لغويةً للسردية" (Grammar of Narrative)،١
"تبدأ السردية "المثالية" بإخبارنا عن حالةٍ مستقرة يعتريها خللٌ تَسبَّبَ به نفوذٌ او قوةٌ ما. هنا تنشأ حالةٌ من اللاتوازن. تتحرك قوةٌ بالاتجاه المعاكس فتعيد التوازن إلى ما كان عليه. التوازن الثاني مشابِهٌ للأول، لكنّ الإثنين لن يكونا أبدًا متطابِقَيْن تمامًا."
يتحدث تودوروف عما يسميه "نعت السردية" و"فِعل السردية". النعت، يقول، "يصفُ حالة التوازنِ أو اللاتوازن"، أما الفعل فيصفُ "تحوّل الواحد منهما إلى الآخر". يتطرق تودوروف في كتابه إلى السردية في النص المتخيَّل، ولكن يبدو واضحًا أن فكرته هذه حول السردية تنطوي على ما هو أكثر شمولاً، يقول٢:
“بمجرد أن نزاوج ما بين الإسم والفعل في جملةٍ ما نكون قد خطونا الخطوة الأولى في بناء السردية."
ما دام لدينا حالاتٌ من التوازن وأخرى من اللاتوازن، ولدينا تَحوّلٌ من واحدةٍ إلى أخرى بفعل عملٍ يقوم به أشخاصٌ بعينهم، فنحن لسنا بعيدين عن فكرة تودوروف حولَ السردية. المعاني تتخلّل هذه القواعد اللغوية للسردية وتنساب في ثناياها، فهي تنبثق من وصف تلك الحالات من التوازن واللاتوازن، وعبر الأعمال التي تحوّل حالةً إلى أخرى، ومزايا الشخصيات، والعلاقات فيما بينهم، وقس على ذلك.
سأعتبر أن كلمتيْ "السردية" و"القصة" تحلان الواحدة محل الأخرى، لكن جزئياً فقط. غالباً ما تكون القص محتواةً في مقالٍ أو تقريرٍ تلفزيوني، أما السردية ففي أغلب الأحيان تقدم ثيمةً أكثر شمولاً تربط القصص بعضَها ببعض وتكسبها معنى. السردية لا تظهر كاملةً في وسيلة إعلامية واحدة. الكاريكاتور، مثلاً، يمكن أن يتضمن وصفاً معيناً لاحدى الشخصيات يهدف إلى تعريف تلك الشخصية من ضمن سردية يُصار إلى التوسع فيها خارج إطار الكاريكاتور.
بقدر ما يشتمل مقطعٌ إخباري على وصف شخصياتٍ بعينها ووصف العلاقات فيما بينها، ويستحضرُ أحداثًا من الماضي وإمكاناتٍ مستقبليةً، فهذا المقطع الإخباري جزءٌ من سردية معينة. من هنا سوف أتطرق إلى المادة التي تنتمي بطبيعتها إلى سردية أكثر شمولا حيثما وُجدت هذه المادة وأيًا تكنِ الوسيلة الموصلة أو الشكل الذي ظهرتْ به. وبقدر ما تتطابق المعاني والقيم الأخلاقية في تلك المادة أو تتناقض، يتم تصنيفها سردياتٍ إما متشابهةً أو متواجهة.
لعلّ من المفيد أن نبدأ بتقديم بعض الإيضاحات:
1- حولَ المنهجية
تتخذ هذه الدراسة مجموعةً من القِصص الإخبارية كنماذج بغيةَ تحليلها، مع التركيز غالبًا على تفاصيلَ ومعانٍ تمت توريتُها ولا مناص من تحليلها بشيء من التوسع كي ندرك المقاصد من ورائها. إنه نوع من "التحليل النقدي للنص" وهو، بخلاف الأنواع الأكاديمية الأخرى، ليس فيه تحليل كمّي تنتهي به إلى استنتاجاتٍ مبنية على مجموعاتٍ من المعلومات والأرقام التي توضح أنماطًا معينة. في ما خصّ المقالات الأخبارية، مثلا، اخترتُ تحليلَها مقارنةً بما هو مختلف، مثل التعليق المعمَّق. هذه الطريقة تتيح لنا فهم نواحٍ محددة من التغطية الأخبارية التي يمكن التقاطُها على وجهٍ أفضل متى قورنت بما هو مختلف. الفكرة هي التقاط نبذة من السردية الدافقة في مجمل الطيف الإعلامي، مما يجعل ممكنًا تلمّس تأثيرات الإعلام في مجريات موضوعٍ معيّن خلال فترةٍ زمنية قصيرة ومساحةٍ محدودة. يبقى أن أشدد على أن في كل ما تفحصتُه من مختلِفِ الوسائل الإعلامية تنوعاتٍ لا يمكن التقاطُها جميعاً في مدى هذه الدراسة.
2- حول وسائل الإعلام الغربية
أسميها "الغربية" هنا طلباً للتبسيط، لكنّ النماذجَ اختيرت من وسائل الإعلام الناطقة أو المكتوبة باللغة الإنكليزية، وباستثناء وكالة الصحافة الفرنسية، كانت كلها من مؤسسات إعلامية أميركية وبريطانية.
3- حول وسائل إعلام محور "المقاومة"
يضم هذا المحور وسائل إعلاميةً ناطقة أو مكتوبة بأكثر من لغة وموجهة إلى جمهور متنوع. هناك خليط من وسائل الإعلام العربية المرتبطة بهذا التحالف، نذكرُ منها وسائل إعلام النظام السوري الرسمية، محطة "المنار" التابعة لحزب الله اللبناني، محطة الميادين ذات البُعد العربيّ العام، وصحيفة "الأخبار" اليومية اللبنانية، ولكلٍ من هذه المنابر نهجُه وتنوّعاتُه السردية. من هذه جميعاً اخترتُ استكشاف نماذجَ من "الأخبار" اللبنانية. كما المنابرُ الأخرى، ترد التغطية الإخبارية لصحيفة "الأخبار" من منظورٍ مشترك مع محور المقاومة الذي يشار إليه أيضاً بمحور "الممانعة". التسمية تتضمن مفهوما يعكس التصدي للنفوذ الأميركي في المنطقة. يعتبر الداعمون لهذا المحور أن تعبيري المقاومة والممانعة يمثلان هدفًا إقليميا أساسيا لهذا المحور. تتخذ "الأخبار" موقفا يساريا حيال الشؤون الاقتصادية، وتوجّها ليبراليا حيال الحريات الاجتماعية، وهي قريبة بدرجاتٍ متفاوتة من حزب الله ومن النظام السوري ومن القوى السياسية الشيعية في العراق. تُوجّه بين الحين والآخر انتقادا للطائفية في معسكر حزب الله وللفساد والتسلّط في سوريا، لكن في ما يتعلق بالتحالفات الإقليمية والحروب التي تشهدها المنطقة تضع "الأخبار" نفسها، بوضوحٍ ووَعْيٍ ورسوخ، في صُلب محور المقاومة. اختياري "للأخبار" جاء بسبب المرونة النسبية في سرديتها، خصوصاً متى قورنت بوسائل الإعلام العربية الأخرى المرتبطة بهذا المحور.
الخط الفاصل بين الخبر والتعليق عليه في "الأخبار" يشوبُه شيءٌ من الضبابية، من هنا فإن الفصل الأول الذي يركّز أساساً على التغطية الإخبارية لا يخلو أيضا من قليلٍ من التعليق. لكنه يختلف عما أتفحصه من تعليقات الرأي في الفصل الثاني حيث نتجاوز التعليق على الخبر اليومي لنخوض في تقليب صورة المشهد الأوسع وتفحّصها.
4- حول الدولة الإسلامية
هنا أيضا وسائلُ إعلامهم متنوعة، فهناك الإنتاج البصريّ الذي تتولاه مؤسساتهم الإعلامية مثل "الحياة" و"الفرقان" اللتين تنتجان توليفاتٍ تلفزيونية حول الحياة في الخلافة والحرب الدائرة. كذلك لديهم بث إذاعيّ عبر الراديو. إعلام الدولة الاسلامية متعدد اللغات، فهم يذيعون بالعربية والإنكليزية والتركية والكردية ولغاتٍ أخرى. الذي اخترته للتحليل في هذه الدراسة هو "دابق" مجلتُهم باللغة الإنكليزية، ومن أسباب هذا الاختيار ما يوفره عليّ من الاضطرار إلى القيام بترجماتٍ غير سهلة وتستهلك وقتاً (النص الأصلي لهذه الدراسة كتب باللغة الإنكليزية)، لكن، في جميع الأحوال، بالنسبة إلى المضمون، وهو هنا موضع التركيز، أعتقد أنها تمثل بصورة عامة سائر وسائلهم الاعلامية.
5- حول الإسلام
فصل واحد يلامس مسائلَ متعلقة بتفسير الإسلام هو الفصل الذي نتناول فيه "الدولة الاسلامية"، علمًا بأنهم (الدولة الاسلامية) ليسوا الجهة الوحيدة، في الحروب الدائرة، التي تطرح سرديةً دينية، فهناك أفرقاء آخرون يعرّفون عن أنفسهم بأنهم جهاديون ومن هؤلاء حزبُ الله وجبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة في سوريا) والعديد من الفصائل السورية المعارضة. كذلك فإن خطاب العديد من الدول المتورطة في هذه الحروب لا يخلو من اللغة الدينية بما في ذلك إيران والعربية السعودية مثالاً لا حصراً. في هذه الدراسة لا الوقت ولا المدى المحدود يتيحان غوصاً دقيقاً في كل هذه النواحي، لا بل حتى في تفحّص الخطاب الديني للدولة الاسلامية تفحصاً ملائماً. مع ذلك فإن من غير الممكن إعطاء فكرة متبصرة بشأن إعلام الدولة الإسلامية دون المرور بمسألة تفسير الإسلام ولو ملامسةً.
6- حول الاقتباسات والتسلسل الزمني
لا تردُ الاقتباسات متلائمةً مع التسلسل الزمني للنصوص المقتبس منها (أو الوثائقي بالنسبة إلى "البحيرة المرة"). لقد حاولتُ جاهدًا التأكد من أن ورود الاقتباسات خارج سياقها الزمني في النص الأصلي لن يؤدي إلى المسّ بالمعنى راجياً أن أكون قد وُفّقت.
7- حول النيّات
قد يحدث في بعض الحالات أن ينبثق من النص، أيّ نصّ، معنى لم يقصده الكاتب، بل ربما لم يتنبه لوجوده. عندما قرأت، مثنىً وثُلاثًا، ما كتبت (واستعدت ما طلبتُه من تعليقاتِ الأصدقاء) لفتني أن انطباعاً معيناً يمكن أن تعكسه نصوصي أحياناً رغمًا عني، وهو أن الإعلام خاضع لتوجيهاتٍ تآمرية متشابكة ولنظامِ تحكمٍ بالأفكار مُحكمِ التصميم، وأن الصحافيين الذين يكتبون هذه القصص يفكرون بوعيٍ وتصميم كاملين في إخفاء بعض المعاني أو تعميتها، أو الإيحاء بمعانٍ معينة بغية خدمة مصالح السلطة. إذا بثَّ النص إلى أذهانكم انطباعاً كهذا حاولوا أن تعزلوه في ركنٍ جانبي حتى إشعار آخر، ذلك أنني سأعود إلى هذه المسألة بمزيد من التوضيح في الملحق.
8- حول الأخلاقية
تعبير "الأخلاقي" (moral) ومشتقاته ترد تكراراً في هذه الدراسة. لم أقصد أن أحمّل التعبير مضامين توحي الإيجابية أو السلبية أو الحياد. لقد استخدمتُه بحيث يشير إلى ما يختص بالصواب والخطأ. أما تعبير (amoral) "لا-أخلاقي" فهو ما لا يختص أصلا بالقيم الاخلاقية.
1- معركة تكريت في التغطية الإخبارية
في آذار/مارس من العام 2015 سُلّطت الأضواء على مدينتين، ما أبعدَ الواحدة عن الأخرى، لوزان السويسرية كانت تستضيف جولة مفاوضات بين دبلوماسيين أميركيين ونُظرائهم الإيرانيين بشأن برنامج إيران النووي، وتكريت العراقية التي كانت آنذاك أحدثَ مسرحٍ قتاليّ في حربٍ غريبة في نوعها.تنظيم الدولة الإسلامية كان أحدَ أطراف النزاع. على الجانب الآخر شهدنا مجموعات متنوعة بدا أنها تنتمي إلى معسكرين، واحدٍ بقيادة إيران والثاني تحت راية الولايات المتحدة الأميركية. كلاهما كان يحارب الدولة الإسلامية في العراق كما في سوريا، لكن لم يكن واضحاً ما إذا كانا يعملان معا نحو هدف مشترك.
في أوائل شهر آذار/مارس شنّ الإيرانيون والميلشيات العراقية الشيعية المعروفة بالحشد الشعبي معركة بهدف استعادة تكريت من الدولة الإسلامية. قالوا إنهم لا يريدون، ولا هم يحتاجون، مشاركة الأميركيين إلى جانبهم في المعركة، وقال الأميركيون إنهم، في كل الأحوال، لا يرغبون في التورط بالمعركة. لكن في أواخر شهر آذار/مارس دخل الأميركيون المعركة. هنا بدأنا نتلقى دفقاً مدوّخاً من البيانات والأخبار والتعليقات متزامناً مع مجريات القتال وسط صراعٍ محموم لتشكيل الرأي العام حول ما كان يجري بالضبط ما بين واشنطن وطهران. صحيح، لا المفاوضات كانت طارئاً جديداً ولا الحرب، لكنّ الصحيح أيضا هو أن كل اللاعبين في الإقليم كانوا بحاجةٍ مفصلية إلى إدراكٍ سليم للمسألتين معاً: الحرب والمفاوضات. هل كان الإيرانيون والأميركيون يتحدثون عن الحرب أيضا؟ هل كانوا ينسّقون هجماتهم على الدولة الإسلامية، يتنافسون في ميدان المعركة، أو يخلطون هذا بذاك؟ ماذا عساه يكون هدفُ كل منهما النهائي من لعبته في العراق، وكذلك في سوريا؟ بدأ التفاعل بين المفاوضات والحرب الدائرة بالظهور في صيف العام 2014 عندما سارع الأميركيون والإيرانيون إلى التحرك إثر احتلال الدولة الإسلامية مساحاتٍ واسعةً من شمال العراق، لكنه بلغ ذروةً في شهر آذار/مارس حيث بات كل حدث من الأحداث تتنازعُه سرديات متباينة، ويُربط بأحداثٍ متباينة، ويُصار إلى تضمينه معاني متباينة.
أولاً: أخبار الإعلام الغربي
في 26 آذار/مارس، إثر مُضيّ بضعة أسابيع على انطلاق عملية استعادة تكريت٣ من تنظيم الدولة الإسلامية بقيادة إيران، أعلن الأميركيون أنهم سينضمون إلى المعركة من خلال شن هجمات جوية على الدولة الإسلامية في تكريت. وكالة الصحافة الفرنسية (AFP) أوردت أن "الحكومة العراقية قدمت طلبًا متأخراً إلى الأميركيين للمساعدة بهجماتٍ جوية وذلك بعد اعتمادهم (الحكومة العراقية) في البداية على النصح والمساعدة الإيرانيين حصرًا"٤.
ال BBC اقتبست كلاما قاله الجنرال لويد أوستن، رئيس القيادة المركزية الأميركية، أكد فيه أمام إحدى لجان مجلس الشيوخ أنه "... عندما تمّ القبول بهذه الشروط – ومن بينها عدم مشاركة الميليشيات الشيعية – حينئذٍ بات بإمكاننا مباشرة التحرك"٥. أما الواشنطن بوست فقد تحدثت عن تصاعد الغضب على خطوط الجبهة تعبيراً عن رفض الطلعات الجوية الأميركية، فضلاً عن تهديد كتائب حزب الله، إحدى المجموعات الشيعية، بإسقاط "أيّ طائرة في المنطقة تابعة للتحالف الذي يقوده الأميركيون"٦. كتائب حزب الله ومجموعة أخرى، عصائب أهل الحق، قالوا إنهم سيجمّدون مشاركتهم في القتال احتجاجاً على الدخول الأميركي. ناطق باسم كتائب حزب الله أعلن أنه "من غير الممكن أن تكون كتائب حزب الله أو أي مجموعة من مجموعات المقاومة في الخندق ذاته مع الأميركيين"٧.
أما الناطق باسم عصائب أهل الحق فقال إنه ليس هناك من حاجة إلى الأميركيين في جميع الأحوال، وهم "لم يأتوا إلا ليغتصبوا هذا النصر العظيم..."٨ ما أن مضى يومان حتى أوردت وكالة الصحافة الفرنسية، على لسان قادة لم تُعلَن أسماؤهم، أنهم أكدوا أنّ "قواتٍ رئيسية لميليشيات تدعمها ايران... قد جَمّدت عملياتها الهجومية بعد بدء الضربات الجوية"٩. لكن في اليوم التالي ورد من رويترز أن الجماعات الشيعية عادت إلى خوض المعركة مدّعيةً أن العبادي قد وافق على وقف الضربات الجوية الأميركية. كذلك أوردت رويترز أن مكتب العبادي والمسؤولين الأميركيين نفوا أيَّ اتفاقٍ من هذا النوع.١٠ ثم، بين نهاية آذار/مارس وبداية نيسان/أبريل استُعيدت تكريت. قال نائب المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص إلى التحالف الدولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق الأدنى بْرِتْ ماكغورك (Brett McGurk) إن تقدم "القوات العراقية" إلى تكريت قد "تم دعمُه بواسطة ضرباتٍ جوية محددة بدقة من قبل قوات التحالف"، ووعد بالمزيد من التدريب استعداداً لموجاتٍ آتية من الهجمات١١. أما ند باركر، مراسل رويترز في بغداد، ومراسلوها في تكريت فقد أوردوا بدورهم ملامح عما أعقب المعركة، مشهداً من العنف الثأري نقلته الوكالة عارياً مرعباً بتفاصيله المقززة١٢.
ثانيا: ملاحظات
بدت الحكومة العراقية الجهةَ الأكثر ضياعًا وحَيْرةً، وقد وجدت نفسها عالقةً بين واشنطن وطهران فجاءت بياناتُها كأنها صيغت بحيث تتجنب في الآن عينه إغضاب الميليشيات أو ايران أو الأميركيين. من ناحية أخرى قدّم كلٌ من الاميركيين والميليشيات روايةً أكثر تماسكًا، لكن الواحدة جاءت مناقضة للأخرى. ففي رواية كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق كانت المقاطعة لمجريات المعركة ردًا على التدخل الأميركي في حين أن رواية الجنرال لويد أوستن قالت إن انسحاب الميليشيات كان شرطًا مسبقًا تمّ انتزاعُه قبل التدخل الأميركي. تبريراً للعودة إلى أرض المعركة قال بعضُ الميليشيات إن العبادي كان قد وافق مسبقًا على وقف الضربات الجوية، لكن مكتب رئيس الوزراء نفى هذا الكلام، والمسؤولون الأميركيون لم يكونوا "على علمٍ" بتجميد المشاركة. أما برِتْ ماكغورك فظل يغرد على تويتر حول المشاركة الأميركية حتى الأيام الأخيرة من المعركة. اذا كان الشرط الأميركي المسبق شرطاً جدياً، لماذا بقيت عودة الميليشيات إلى المعركة دون أي رد فعل أميركي؟ اذا كان تجميد المشاركة (أو المقاطعة) جديا لماذا عادت الميليشيات إلى المعركة؟
نستطيع أن نرى أين تلتقي الأهداف الدعائية، البروباغندا، لكلٍ من الأميركيين والميليشيات وأين تتباعد، فكلا الطرفين يؤكد مشددا وجود مسافةٍ فارقة بين الولايات المتحدة وإيران، وكلاهما يسعى إلى استبعاد الإنطباع بأنهما، في الحرب الدائرة، في المعسكر نفسه. إذأً، بهذا المعنى بالذات، هما يتلوان علينا الرواية ذاتَها. لكنّ الرسالة الأخلاقية معكوسة، ففي السردية الأميركية المسافة بين الجهتين تعني ان الأميركيين لا يتشاركون معسكراً واحداً مع الأشرار (الميليشيات)، وهم لا يخوضون حرباً ما لم تكن نظيفة. في سردية الميليشيات، في المقابل، المسافةُ نفسُها تعني أن الميليشيات لا تتشارك معسكراً واحداً مع الأشرار (الأميركيين)، وهي ليست بحاجة إليهم لأنها قوية بذاتها.
الفريقان، كلاهما، يحاولان تمويهَ حقيقةٍ هي أنّ جهودهما الحربية تبدو أنها تكمّل بعضُها بعضا بنسبة لافتة، فالأميركيون يقدمون قوةً جوية متطورة تقنيًا لا يمتلك مثلَها الحشد، والحشد يقدم قوةً ميدانية على الأرض ذاتَ دفعٍ ايديولوجي لا يمتلك مثلها الأميركيون. كيف، والحالةُ هذه، ينظر الاعلام إلى هذه المسائل ويتفحص مضمونَها؟
في رواية ال BBC التي نقلت كلمات الجنرال لويد أوستن، ست فقرات من أصل اثنتي عشرة فقرةً كانت اقتباساتٍ حرفيةً مباشِرة أو صِيَغًا تفسيرية لما قالَه، أما ما تبقى فكان مجرد خلفية لا خلاف حولها. في هذا المثال نرى أن ال BBC سلمت في واقع الأمر مهمةَ رواية القصة للجنرال الأميركي بحيث أن وجهةَ نظره عُرِضَت وحدَها على المنبر غيرَ متبوعةٍ بأي تفسير. أما الروايات الأخرى فكانت أكثر إيرادًا لوجهات النظر المتعددة، بما فيها تلك الآتية من بغداد ومن الميليشيات. هنا رأينا درجاتٍ متفاوتةً من التفسيرات وقد بدت وكالةُ رويترز متميزة: ١٣
"بلغةٍ ظهرَ كأنها تعمدتْ عدمَ ذكر الميليشيات المدعومة من إيران، قال الجنرال جيمس تيري... الضرباتُ الجوية كان هدفُها تمكين "القوات العراقية بقيادةٍ عراقية."
"الحكومة الأميركية، المفتقدة إلى حدٍ بعيد إلى الثقة بالميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، كانت تتصيّد السبُل للمشاركة في معركة تكريت دون أن تعترف بأنها تعمل إلى جانب قواتٍ تدعمها طهران.١٤"
لكنّ النهجَ الطاغي، على الغالب، هو إيراد البيانات الرسمية بصيغةٍ حيادية. الاقتباسات تأتي بمعظمها مقبولةً على وجهها دون سؤال، والعديد منها يكاد يعبرُ إلى المتلقي حتى دون أي تفسير، وفي ظل نهج التغطية الإخبارية المتجردة تصبح روايات "شخصيات القصة" (الجهات المتخاصمة) هي المادة الطاغية على السرديات الإخبارية الغربية. مع اقتحام تكريت تغيّرت الوتيرة، ففي الأسوشياتد برس(AP)١٥ ورويترز١٦ انتزع المراسلون الميدانيون موقتاً رواية الأحداث الجارية على الأرض، ذلك أنهم كانوا يشاهدون بعضَ مجرياتها بأم العين. المضامين السابقة للقصة ألقيت خارج المشهد، بما في ذلك الشرط الأميركي المسبق الذي أسقطته الأسوشياتد برس وال BBC ورويترز١٧ من أخبارها حول الاقتحام الأخير.
لكن هذا الحدث القديم يمكن أن يكون قد اكتسبَ معنىً جديدا، فبعد انتهاء المعركة تبيّن لنا ما يشير إلى أن الشرط المسبق كان مجرد حاجبٍ للرؤية في حين كانت الميليشيات والأميركيون يقاتلون في الوقت ذاته وحتى النهاية. لكنّ الشرط المسبق اختفى الآن وقد امَّحى معناه الجديد قبل أن يتاح ظهوره جليا. في رسالةٍ قوية من تكريت رأى ند باركر وزملاؤه المراسلون (لم تذكر أسماؤهم لأسباب أمنية) "بصمات الميليشيات الشيعية – وبصمات ايران بالذات.... تغطي الساعات الأخيرة من المعركة،" لكنهم لم يشيروا الى أية صلة من هذا القبيل للولايات المتحدة١٨. لغة الحياد والتجرد خَلقتْ انطباعا منذ البدء حتى النهاية، بأن التغطية الإخبارية لا شأن لها بالدلالة إلى الخير والشر، لكنّ الرسالة الأخلاقية تُبَثُّ تسريبا. فعملُ السوء (معظمُه في هذه الحال من نوع الخداع) يَصعب أن يُنسبَ إلى الأميركيين لأن الفجوات في سرديتهم نادرًا ما يُشار إليها. فالشرطُ الأميركي المسبق، الذي نال تغطيةً واسعة عندما كان الأميركيون يروّجون له، ما لبث أن اختفى من المشهد عندما كشفت الأحداث إما أنه كان فارغاً من أيّ معنى، أو أنه كان كِذْبة عارية. هكذا تقف التغطية الإخبارية بمعظمها حارساً أمينا لحسن الطويّة الأميركية، في حين تفوتُها القصةُ الحقيقية.
ثالثا: أخبار "الأخبار"
مع "الأخبار" سننظر إلى السردية الإخبارية من خلال ثلاث مراحل، الأولى قبل دخول الأميركيين المعركة، الثانية عندما دخلوها (خلال الأيام القليلة إياها التي تحدثنا عنها أعلاه حول الإعلام الغربي)، والثالثة والأخيرة بعد مرور شهر أي حين سقطت الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار الغربية، في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية.
المرحلة الأولى:
في مطلع شهر آذار/مارس كانت الميليشيات تتقدم في حين كان الأميركيون ينأَوْنَ بأنفسهم عن المعركة. الصحيفة ترفع الصوتَ سوطًا لاسعاً ضد الذين يدّعون أن الحشد كان يتقدم تحت غِطاءٍ جويّ أميركي١٩: "المشكلة الأكبر هي أنّ الذين يروّجون للـ«اتّهام» أعلاه يمثّلون، من دون استثناء، القوى المتحالفة علناً ــــ وذيلياً ــــ مع اميركا وجيشها؛ كأنّما أقصى حجّة بقيت في متناولهم، ... هي في أن يقولوا لخصومهم «أنتم مثلنا»".
المرحلة الثانية:
خلال الأيام الأخيرة من معركة تكريت كان كلٌ من الأميركيين والحشد يعلن أنه في صلب المعركة، لكنّ كلاً من الطرفين كان ينكر تدخل الطرف الآخر أو يقلّل من أهميّته. نشرت الصحيفة تكرارا ادعاء بعض الجماعات بأنها أجبرت العبادي على تأمين تجميد الدور الأميركي قبل عودة هذه الجماعات إلى القتال٢٠.(هذا هو الادعاء الذي أوردته رويترز مرفقًا بنفيين، عراقيٍّ وأميركي). هنا يهاجم عامر محسن "الصحف العربية" المعارضة لإيران لأنها لم توضح أن الميليشيات لم تعد إلى المعركة إلاّ بعد أن جمّد الأميركيون ضرباتهم الجوية، ثم يقول٢١: “قادة الحشد وأنصاره يهاجمون التحالف علنا ويرفضونه، وأكثرهم يؤمن بأن الطائرات الأميركية تُعين "داعش" وتزوده بالمساعدات؛ وهم قاتلوا الاحتلال الأميركي ودخلوا سجونه، فما الذي تريد أن تثبته؟ أنك تعرف اتجاههم السياسي أكثر مما يعرفونه هم؟ وما مصلحتهم اذاً، في كل هذا الكذب والتظاهر؟ أن يخدعوك؟"
المرحلة الثالثة:
بعد مرور شهرٍ وبعض الشهر استولت الدولة الإسلامية على الرمادي عاصمة محافظة الأنبار. مع هذا التطور تقدم لنا "الأخبار" نظرةً استعادية لما حدث في تكريت وجاء ذلك تحت عنوان "بين تكريت والرمادي: كيف هُزمت الاستراتيجية الأميركية في العراق؟٢٢". بحسب "الأخبار"، فإن واشنطن نصّبت نفسها "محررا حصريا لبلاد الرافدين من احتلال "داعش" من خلال الرهان على ربط كل خطط التسليح والتدريب والتوجيه الاستخباري والعملياتي للقوات العراقية بها وحدها،" بحيث ترفع من وتيرة نفوذها في بغداد أو عليها. سارعت إيران إلى الميدان بتقديم دعمها ضد الدولة الإسلامية وبذاك نَفّست الخطة الأميركية٢٣. وهكذا أصبح على الأميركيين أن يكتفوا بحرمان طهران من احتكار النصر بدل أن يحاولوا انتزاعَه كاملا لأنفسهم.
وها هي الآن قصة المعركة النهائية٢٤: "مع وصول قوات «الحشد» إلى تخوم مدينة تكريت، تم وضع اللمسات الأخيرة على خطة تحريرها. كما حددت «ساعة الصفر» فجر السابع والعشرين من آذار الماضي. وفجأة حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ قبل موعد العمليات بأربع وعشرين ساعة دخلت طائرات «التحالف» إلى منطقة العمليات وباشرت بتنفيذ غارات، ليتبيّن في غضون ساعات أنها حصلت على ضوء أخضر من رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، للمشاركة في عملية تحرير تكريت... وتبيّن آنذاك، بشكل لا لبس فيه، أن الخطة المبيتة كانت إحراج «الحشد» (بدخول طائرات التحالف ساحة المعركة) لإخراجه... لكن تعثر القوات العراقية الرسمية على مدى أربعة أيام عند تخوم المدينة، دفع بعض فصائل «الحشد» التي كانت لا تزال تحتفظ بقواتها في محيط تكريت إلى اتخاذ قرار بكسر المراوحة الميدانية القائمة والاندفاع بقوة من عدة محاور تقدم لمساندة قوات الشرطة والجيش، الأمر الذي كان له أثر حاسم في حسم المعركة في غضون يومين".
لكن مسار تعامل العبادي مع الأميركيين أطلق شرارة الأزمة بينه وبين الحشد، حيث يخبرنا الراوي عن اجتماع غير مثمر بين رئيس الحكومة من جهة وقادة من الحشد والجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، من جهة ثانية. أحد فصائل الحشد هدّد في بيان أصدره "بنزع جلد من يسعى إلى نزع شرعية المقاومة". وقد اعتبرت الصحيفة أن هذا التهديد يُقصد به شخصُ رئيس الحكومة مباشرة٢٥.
يلي ذلك إعلان العبادي عن عملية في الأنبار دون أن ينسّق مع قوات الحشد، ولم يمضِ وقت طويل حتى سقطت الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار، في يد الدولة الإسلامية. هذا السقوط، بحسب الأخبار، شكل هزيمةً مدوية للأميركيين جعلت العبادي "يصحو" على واقع الأمر بأنه لا يستطيع إنجاز انتصاراتٍ حقيقيةٍ ضد الدولة الاسلامية دون أن يكون للحشد فيها دور. هنا تأتينا زبدة الخلاصة من القصة: توضيحاً لهزيمة الستراتيجيا الأميركية المشار إليها في العنوان، تشير الصحيفة إلى بيانٍ أصدره البنتاغون بعد سقوط الرمادي معربًا عن قبوله بمشاركة الجماعات الشيعية ومعتبراً هذه المشاركة عاملاً إيجابياً٢٦، ثم تضيف الصحيفة: "ولكي يُفهم حجم الانكسار الأميركي الذي ينطوي عليه هذا الكلام، يكفي فقط استحضار ما قاله قبل أشهر الرئيس السابق للـ«سي آي إيه»، الجنرال ديفيد بترايوس، في حق هذه «الجماعات»، إذ اعتبر أن «خطرها أكبر من ذلك الذي يمثله داعش» وأنها (الميليشيات الشيعية) تمثل «التهديد الأكبر على استقرار العراق على المدى الطويل».
ينتهي الكاتب إلى الاستنتاج بأن واشنطن خسرت العراق ثلاث مرات، الأولى عندما اضطرت إلى الانسحاب منه في العام 2011 "تحت ضربات المقاومة التي كانت ترتبط بإيران سياسياً وإيديولوجياً وماديًا"، ثم بفشلهم في الحصول على المعاهدة التي أرادوها مع بغداد، وأخيرًا في هذا الكباش الدائرحاليا٢٧. وفي كل مرة، يقول الكاتب، "كانت الخسارة تصبّ في مصلحة عدوها الأول في المنطقة، إيران٢٨."
رابعاً: ملاحظات حول التقارير الإخبارية لـ "الأخبار"
الأسلوب الحياديّ الذي يترك انطباعًا بالتجرد في الإعلام الغربيّ لا تبحث عنه في "الأخبار". في المقال الاستعادي يظهر جليًا أن الكاتب في معسكر الحشد، يتعامل مع واشنطن بسخرية ومع رئيس الوزراء العبادي باحتقار. وهو على علمٍ بوجود مخطط لعملية عسكرية بما في ذلك قرارُ توقيتها، كما أنه على علم باجتماعاتٍ تُعقد بين قادة الحشد والجنرال قاسم سليماني والعبادي. والكاتب مطلع على معلوماتٍ داخلية (غير مكشوفة) يتداولُها باعتبارها دقيقةً وذات صدقية. لا نعثر على أية إشارة إلى مصادره حتى لو جاءت دون تحديد بالاسم، والمسافة بين ما تخبره به تلك المصادر وما يخبرنا هو به تكاد تكون ملغاة، مما يخلق انصهاراً ما بين رواية "الأخبار" وتلك التي يرويها الحشد. النص سريع الوتيرة غنيٌّ بالتفاصيل، والهزيمة الأميركية نقطة محورية، كذلك الدورُ الإيرانيّ فيها. فالإيرانيون لم يكتفوا باستنزاف الأميركيين في العراق، وإنما ذهبوا إلى التيقن من أنهم خرجوا خالي الوفاض مما أرادوا الحصول عليه. يسلّط النص أيضًا الأضواء على الكفاءات العسكرية والدبلوماسية لدى الإيرانيين مقابل تأكيده بؤس العجز الأميركي.
في سردية "الأخبار" لا نقرأ عن تعثر تقدم الحشد كما يرد في تغطية الإعلام الغربي، فالتوقف ما بين التقدم الأساسيّ وبَدء الضربات الجوية الأميركية أريدَ له أن يُفهمَ ضمنًا أنه مخطَّط له، كأنهم كانوا على وشْك الاقتحام ولكنّ الضربة الأميركية الجوية سبقتهم. أما بشأن الأحداث بعد الضربة الأميركية فنحن أمام تناقضٍ ما بين مراحل الرواية. الادعاء سابقًا حول تجميد الهجمات الأميركية سقط في المقال الاستعادي، كأنها إشارة بأنه لم يكن ذا صدقية، وعليه فإن عودة الحشد إلى تكريت، وهي لحظةٌ دراماتيكية غامضة في الرواية، زادت هنا غموضا، فبدلاً من التجميد نشهد قفزةً تنقلنا أربعةَ أيام إلى الأمام حيث يتجمد تقدم القوات العراقية الرسمية وتتقدم قوة من الحشد للإنقاذ.
لعلّ الذروة هي في هزيمة الأميركيين بعد سقوط الرمادي. من الهجوم الصاعق للجنرال بترايوس على الحشد إلى إجبار البنتاغون على الاعتراف بدورٍ له (للحشد)، ها هم الأميركيون يتراجعون مرةً أخرى. القصة هنا تتمثل في العبور من حالة اللاتوازن التي كانت أميركا خلالها تخطط ضد ايران، إلى التوازن حيث هُزمت استراتيجيتها. هذا ما يُفهم بوضوح من خلال الربط بين البيانين اللذين قُدّما على أنهما مقياسان للهزيمة الأميركية في معرض توضيح العبور من التعنت إلى الاتضاع.
لكن تبقى القطبة المخفية، فآراء بترايوس لا تمثل السياسة الرسمية. صحيح، "الأخبار" عرَّفت بترايوس بأنه المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، لكنها مرّرت ضمناً أن وجهات نظره إنما تمثل الإدارة الأميركية الحالية. أضِف، أنّ هناك تجاوزاً جوهرياً للسياق، ففي مقابلته مع الواشنطن بوست التي تشير إليها "الأخبار" قال بترايوس ما معناه إن الإدارة الاميركية سارعت إلى الخروج من العراق قبل الأوان، وأضاف أنه خلال السنوات القليلة الماضية "كان هناك شعور في واشنطن بأن ما يحدث هنا كان، بمعنىً ما، هامشياً بالنسبة إلى أمننا القومي٢٩." أي، بكلامٍ آخر، كان يتحدث معارضاً السياسة الحالية.
اذا أجرينا مقارنة بين بيان البنتاغون الذي اعترف فيه بدور الحشد بعد سقوط الرمادي والبيانات الأميركية الرسمية السابقة له تطالعنا صورة مختلفة. في كلام لرئيس هيئة الأركان الأميركية مارتن دمبسي في مطلع شهر آذار/مارس قال القائد الأميركي إن دور إيران يمكن أن يكون إيجابيا شرط ألا يؤدي بالنتيجة إلى الطائفية٣٠. بعد مرور أسبوع على هذا الكلام اقتُبسَ من تصريحٍ له أنه قال إن "التوافق العام" الداخلي بين القوات المسلحة الأميركية وشركائها في التحالف هو أن "التحرك الميداني للإيرانيين ضد الدولة الإسلامية أمر جيّد، "لكننا جميعًا قلقون" حول ما سيحدث فيما بعد٣١. إذًا السياسة الأميركية تبدو كأنها لم تتغير على الإطلاق، فالبيانات قبل الرمادي وبعدها حافظت على ذات الموقع اللّين المطواع والموازِن بين تعابير "القلق" والموافقة المشروطة. ببساطة، يبدو أن الأميركيين لم يعودوا منزعجين بهذه الدرجة من تصاعد موقع ايران في العراق.
من خلال المراحل الثلاث جميعاً يمكننا أن نتبيّن مقولةً لا تتغيّر، وتكاد تشكل هاجساً، بأن ايران هي العدو رقم واحد لأميركا في المنطقة، وأن مقاتلي الحشد عدائيون تجاه الأميركيين. خلافًا لما رأيناه في التقارير الغربية التي مررنا بها، رأينا هنا سعياً إلى الخروج باستنتاجات حول العلاقة بين أميركا وايران، والوصول إليها فعلاً. لكنّ الفجوات في الرواية تظهر أكثر وضوحاً، أما استعراض الهزيمة الأميركية فوقعَ بين شِدْقَيْ الخطأ القاتل.
خامساً: أهي آلاتٌ بلا مخ؟
حتى الآن ما من رواية إخبارية قدمت لنا أجوبةً متماسكة للسؤال المركزي الذي تطرحه تلك الروايات، وهو طبيعةُ العلاقة بين واشنطن وطهران. التغطية الإخبارية الغربية تقدم لنا قصةً مملّة في أغلب الأحيان لا تعدو كونها “فلاناً قال كذا وكذا"، و"فلانة قالت كذا وكذا"، وانتهت القصة. إذا نحن استثنينا شيئًا من الوصف الدراميّ لمآسي الحرب التي تنقلها قصص جبهات القتال، لا يبقى سوى القليل من المحاولات لإخبارنا بما يعتري المشهد المتكشف من الخبايا والمكائد وحتى العبثيّة. أما سوى ذلك فتطالعنا قصة مملة كأن آلةً جامدة بلا روح لفظتها للتوّ. "الأخبار"، من ناحية أخرى، أكثر كرما بما يشهده الميدان من تحركٍ وأحداث درامية ومكائد. لكنّ عامل التخيل يبدو أكثر وضوحا هنا منه في الروايات الغربية. ولكي نكون منصفين حيال كل الذين يأتوننا بالأخبار، لا ننسَ أنهم غالبًا ما يكونون بعيدين عن مصدر الخبر أو أن مجال وصولهم إليه محدود وتحت المراقبة. كذلك فانهم، وبدرجات متفاوتة، خصوصًا بالنسبة الى محطات البث الغربية، مشغولون بتلبية حاجات آلات عملاقة لالتهام الأخبار.
محطات التلفزة، وكالات الأنباء ومواقع الأخبار الإلكترونية تَدفقُ الأخبار دفقًا لا يكفّ على مدار الساعة، في حين كُتّابُ هذه المؤسسات ومراسلوها ومنتجوها يَستجيبون، هم أيضا، لشهيةٍ لديها لا تَشبع ولا ترتوي. يسجّلون، يحرّرون، يجمعون المقاطع الصوتية والمادة المصوّرة ثم تولّف في الصيغة المحددة المطلوبة للراديو أو التلفزيون أو الإنترنت. في مطاحن الأخبار، كثيرون يُضطرون إلى الكتابة عن بلدانٍ قلّما يعرفون عنها شيئًا وعن شخصياتٍ لم يسبق أن سمعوا باسمها. قصة، قصّتان، ثلاث، نسجّل، نُقطّع، نَحفظ ونولّف. هات غيرها! وهكذا دواليك، واحدةٌ بعد أخرى حتى ينتهي الدوام. يُسلّمون القصصَ إلى فريق عملٍ آخر فيستأنف العمليةَ الميكانيكية إياها ويستمر في نَسْجِ القصص، وتستمرّ الدائرة في الدوران إلى ما شاء الله. هذا الانطباع الميكانيكي المشظّى الذي تتركه لديكم قِصصُنا لا بد أنه، إلى حدٍ ما، نتيجةُ العمليات الميكانيكية التي ننتج بها تلك القصص. فالوقت لا يتسع للتحليل، حتى أنه في بعض الأحيان يكاد لا يتسع للتفكير. وعليه، فَلْننتقل، وان بالإعلام المهيمن، إلى مرتبة التعليق المعمّق، علّنا نكتشفُ هناك أسرارَ ما فاتنا في الأخبار.
2- تعليقات الرأي حول معركة تكريت
نبدأ رحلةَ استكشافنا للتعليقات الغربية بصورة كاريكاتورية تحاول الإضاءة على العلاقة الغريبة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية وتفسيرها، ثم ننتقل إلى مقالٍ في ال فورن بوليسي ومنه إلى مقالٍ افتتاحيّ في الـ نيويورك تايمز.
1- معركة تكريت في تعليقات الرأي الغربية
أ- "غريبان في السرير معًا٣٢"
العم سام في حالٍ من الصدمة، فقد اكتشفَ للتوّ أنه في سرير واحد مع الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، الذي قيل إنه كان يقود معركة تكريت على الأرض. ملامح الجنرال تنبىء بأنه صاحبُ الإمرة الذي استطاع الإتيان برأس الهرم الأميركي إلى السرير وهو يرميه بنظرةٍ من عينين تشعان ببريق النصر وابتسامةٍ لا تتسع لفرحته بهذه اللحظة. لا شيء يضاهي الكاريكاتور الجيد تعبيرا عن قصة أو تعليق، وهذا الكاريكاتور الذي نشرته “The Week” (الأسبوع) يطالعنا بروايةٍ قويةِ الوقع لقصة قديمة لا تنفك تطفو على سطح الأحداث حينًا بعد حين: ما أحمق الأميركيين، يضربون خبطَ عشواء ولا يدرون ماذا يفعلون. يعيدنا إلى حالٍ مضَتْ من التوازن، حالٍ طبيعية كان الإيرانيون والأميركيون خلالها أعداء. من التعابير على وجهَيْ العم سام والجنرال سليماني نفهم كيف تمّ العبور إلى حال اللاتوازن الآنية، فقد عمدَ سليماني إلى إغراء العم سام بملاقاته في السرير حتى دون علم هذا الأخير. كم هو مسكينٌ ساذَج هذا العم سام، يجهل مكائد الشرّ في هذا العالم، ولا تزيدنا براءته إلا تعاطفًا وتحبّبًا مقابلَ تلك الحنكةِ الشيطانية الصارخة في ابتسامة الجنرال ونظرته الجانبية الخبيثة.
ب- "التطهير العرقي"
وسط اشتعال معركة تكريت يخرج الكاتبان Michael Weiss وMichael Pregent في ال فورِنْ بوليسي بعنوان مزلزل يهزّ أركان إدارة أوباما: "الولايات المتحدة تقدم غطاءً جويًا للتطهير العرقي في العراق.٣٣". يعرض الكاتبان ما يعرفانه من خفايا مجريات الحرب، ويُفصّلان آليات التنسيق غيرِ المباشِر بين الأميركيين والإيرانيين مروراً بأقنيةٍ عراقية رسمية وغير رسمية.٣٤. يعلن الكاتبان، في خروج حاد عن الموقف الأميركي الرسمي وعن كل ما رأيناه أعلاه من تغطيةٍ إخبارية، أن "رجال المخابرات الإيرانيين هم الآن عيونُ أميركا على أرض المعركة." ويعودان ستة أشهر إلى الوراء حين دارت معركة آمرلي.٣٥ "تحرير آمرلي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي كان إنجازاً تمَّ بقيادة وحدات الحشد الشعبي وإيران"، قال الكاتبان، وأضافا أن وحدات الحشد "تلقت دعماً جوياً أميركياً في المراحل الأولى من المعركة." ويشير الصحافيان إلى تقرير صادر عن منظمة "هيومان رايتس واتش" يورد بالتفصيل أخبار انتهاكات على نطاقٍ واسع ليخرجَ باستنتاجِ أنّ "تدمير الأبنية في ما لا يقل عن سبعٍ وأربعين قريةً أكثريةُ سكانِها من السنّة كان عمليةً ممنهجةً بدافع الثأر، والقصد منها تغيير التركيب الديمغرافي لمحافظتي صلاح الدين وكركوك المعروفتين تاريخيًا بتنوع نسيجهما السكاني."
هنا يستلُّ الكاتبان من مخزون الذاكرة قصةً كي يضيئا بها على أن أحدًا في الحكومة الأميركية يجب ألا يفاجئَه "أنّ ما يصحّ اعتبارُه احتلالاً إيرانيًا للشرق الأدنى ومنطقة ما بين النهرين سوف يؤدي إلى المزيد من سفك الدماء على أيدي الجهاديين":٣٦.
"يبقى دِمْبسي أقل الذين تُقبل منهم الأعذار. جنرال ذو أربع نجوم، سبق أن قاد الفرقة المدرّعة الأولى في بغداد، التي كانت في العام 2004 على وشْكِ العودة إلى الوطن حين أُمرت بتغيير برنامجها لكي تحارب الميليشيات الشيعية التي كانت قد استولت على كربلاء ومدن جنوبية أخرى. وبذلك يكون قد رأى بأم العين النذير الذي تأتي به وحداتُ الحشد الشعبي في الميدان. مع ذلك لم يتوانَ في تقديم إفادة أمام أعضاء مجلس الشيوخ بأن دور الجمهورية الإسلامية في العراق لا يزال ممكنًا أن يُثبت "إيجابيتَه" – شرط أن لا يؤدي إلى ارتفاع منسوب الطائفية."
ثم يقتبس الكاتبان، في سياق المقال، كلامًا لأحد المحلّلين حيث يقول إن وحدات الحشد الشعبي هم "الأشخاص أنفسُهم والمنظمات نفسُها" التي "قتلت مئات الأميركيين خلال الحرب..." وهنا يُذكراننا بأن "على أيدي هؤلاء دماءً أميركية وأن مصالح أميركا أبعد ما تكون عن أذهانهم..." يخالف الكاتبان تقييم جون كيري حيث يرى أن للولايات المتحدة "مصلحة مشتركة" مع نظامٍ "ها هم ممثلوه يحرقون الناسَ أحياءً في منازلهم، ويلعبون كرة القدم بالرؤوس البشرية المقطوعة، ويقومون بالتطهير العرقي وتسوية قرى بكاملها بالأرض"، وينتهيان إلى الاستنتاج بأنه "أكان الاتفاق النووي مع إيران سيوقع هذا الأسبوع في لوزان أم لا... تبقى الحقيقة التي لا تقبل جدلاً هي أن العراق، بمعظمه، يبدو على المدى الطويل باقياً ولايةً للملالي."٣٧
ج- "في صلب المصلحة الغربية"
تحت عنوان "إيران هي الأهم"٣٨ يصوغ روجر كوهين في صحيفة نيويورك تايمز أطروحةً للدفاع عن السياسة الأميركية: "فلْننجز الإتفاق مع إيران، ولْنَهزم القَتَلة البرابرة، جماعة الدولة الإسلامية، ففي هذه الفوضى الشرق أوسطية العارمة والمشظّية لا بد أن تعتمد أميركا والغرب هذه الأولويات قبل سواها، ذلك أنها أهدافٌ تضرب جذورها في صُلب المصلحة الغربية."
في معرض الدفاع عن منطقه يقول الكاتب إن المحادثات مع إيران "قد جعلت التسارع النوويّ الإيراني يأخذ منحىً عكسيًا"، وإن معارضي المباحثات لم يطرحوا بدائلَ جدية، فضلا عن أن الحرب مع إيران "لن تتسبّب بأكثر من تأخير لا يذكر لبرنامج إيران النووي ليعود بعده إلى الانطلاق متسارعاً غيرَ خاضعٍ لأية رقابة”:٣٩. هذه حربٌ، اذا وقعت، عقيمةُ الهدف، أو أنها قائمة على ادّعاءات كاذبة. كفانا حروبًا من هذا النوع."
ثم يكمل مدافعًا عن السياسة الأميركية عموما في المنطقة ويقول إن "أميركا قد أوضحت لايران، حتى قبل الوصول إلى أيّ اتفاقٍ ممكن، أنها لن تتخلى عن حلفائها، بمن فيهم مصر والسعوديون".٤٠ ويعتبر الدولة الإسلامية "أحدث تعبير عن الأيديولوجيا الاسلامية السلفية المتكاثرة والقائمة على البغضاء الإجرامية حيالَ الحضارة الغربية"، بأنها هي الموضوع الذي تلتقي عنده المصلحتان الأميركية والايرانية.
٤١2- ملاحظات حول تعليقات الرأي الاخبارية الغربية حيال تكريت
توصيف الولايات المتحدة في الرسم الكاريكاتوري يناقض السردية الرسمية حول سيطرة الإدارة الأميركية على مجريات الأحداث، فإدارة أوباما، كما أية إدارة أخرى، تسعى إلى ترويج صورتها على أنها تتصرف بأخلاقية وكفاءة في آن معا. الكاريكاتور ينفي إمكانية أن يكون الأميركيون مدركين لما يفعلون، ويصوّر إصرار الإدارة على النأي بنفسها عن إيران والميليشيات بأنه غير صحيح. وجودُهما في سرير واحد يعني أنهما يخوضان الحرب معًا. لكن الكاريكاتور ينفي أيضا إمكانية المسرحة بهدف التعتيم على السياسة، فالعم سام لم يتقصّد خوض الحرب إلى جانب إيران وإنما وجد نفسه في هذا الموضع بعد أن استدرجه الجنرال سليماني عن طريق الخدعة إلى سريره. بذلك خسرت الولايات المتحدة صورةَ الدولة ذاتِ القوة المحسوبة بدقة، التي روَّج لها الجنرال أوستن، بحيث ظهرت ساذجةً عاجزة عن ضبط تحركاتها، لكن شخصيتها الأخلاقية بقيت نظيفةً إلى حد كبير.
في مقال ال فورن بوليسي تكاد القصة بأجمعها تنحصر في العنوان حيث جرى الربط بوضوح ما بين الطائرات الأميركية في الجوّ والجيش الطائفي على الأرض. الطائرات تزوّد الحشد "بالغطاء الجوي"، ما يشير ضمنًا وللمرة الأولى إلى علاقة انسجام بين واشنطن وطهران. هذا الأمر يتضح بعدة طرق، من بينها الإطلاع الداخلي الذي يأتينا من آليات التنسيق، ومنها أيضا معركة آمرلي التي أنهيت في أواخر آب/أغسطس 2014، والتي لم يظهر لها أيّ أثر في التغطية الإخبارية الغربية لمعركة تكريت، أو في المقالات التي رأيناها في "الأخبار"، على رغم تقديمها إضاءة قيّمة عن انطباع التنافس الذي خَلَقته واشنطن والحشد. علامَ كل هذا الضجيج حول الشروط المسبقة والمقاطعة ما دام الإيرانيون والأميركيون قد سبق لهم أن استولوا على مدينة بالتعاون فيما بينهم في وضح النهار منذ ستة أشهر؟
اذا صحّ أن المنافسة الآن حقيقية، فما الذي حدث بين أمرلي في آب/أغسطس 2014 وتكريت في آذار/مارس 2015؟ إن القفز فوق أمرلي كجزءٍ محتمل من السياق، أكان في تغطية الإعلام الغربي أو في "الأخبار"، يعني أن هذه الأسئلة لا يمكن طرحُها ولا الإجابةُ عنها في سرديات هؤلاء. ثم هل يمكن أن يكون العم سام على هذه الدرجة من الذهول والحيرة إذا كانت العلاقة قائمة ومكشوفة منذ هذا الوقت الطويل؟ مقال Weiss وPregent في الفورن بوليسي من شأنه تعريةُ الفجوات في القصص الأخرى، وهو يشكل هجوما جبهويا على ما تقوله وتفعله واشنطن. يستند المقال إلى معرفةٍ بالأمور، واسعة وتفصيلية. في متنه وضوح لا يقلُّ عما حملَه إلينا العنوان، وصولا إلى الخلاصة بأن "رجال الاستخبارات الإيرانيين هم الآن عيون أميركا على الأرض."
بالنسبة إلى إخبارنا بمجريات الأحداث تبدو قصة الفورن بوليسي أكثر منطقا من أية قصة اخرى رأيناها حتى الآن. لكن ماذا عن الأمثولة الأخلاقية في القصة؟ في الفورن بوليسي يطالعنا Pregent و Weiss بكلام واضح حول مفهوم الأشرار والأخيار، وذلك خلافًا لما رأيناه في التغطية الإخبارية الغربية حيث لا يُسرَّب المفهوم الأخلاقي إلا من وراء الحُجُب المتعددة. في مقال فورن بوليسي يطالعنا السوءُ مرئيا واضحا إيرانياً، وتطاول الوصمةُ الادارة الأميركية بالمعية. وفيما تمعن القصة تنقيبا في تلافيف الماضي تطلّ علينا موضوعاتٌ جديدة ومتنوعة. فلنلاحظ هذه القصة، على سبيل المثال: في العام 2004 كانت فرقة مارتن دمبسي على وشْك العودة إلى بلادها عندما استولى "نذيرُ قواتِ الحشد الشعبي" على كربلاء. نحن لا ندري شيئًا عن التوازن الذي كان قائما قبل هذا الإستيلاء، ولا ندري مِن بين أيدي مَن انتزَعت الميليشيات الشيعية مُدنَها هي (أي الميليشيات)، كما لا ندري أيّ شيء آخر كان يجري في العراق آنذاك. بالمناسبة، هل كنا ندري، من بابٍ أولى، ما الذي جاءَ بدمبسي إلى العراق؟٤٢. المعنى المرغوب إيصالُه هو أن دمبسي يُفترض أنه "كان قد رأى بأم العين "نذير" قوات الحشد الشعبي عاملاً على الأرض"، وهو بالتالي لا عذرَ لديه في أن يقول إن دور إيران قد يثبت انه دور "إيجابيّ". أما الطريقة التي صيغ بها هذا المعنى فهي مثالٌ نموذجي على حيلة شديدة الوقع في السرديات الإخبارية. كأن تخطفَ رجلك إلى الماضي كلمح البَصَر وتنتزع منه كما بعملية جراحية قصةً مكثفةً تتيح للذاكرة أن تبعث المعنى المحدد المقصود ثم تختفي ويبتلعها الضباب.
هنا تأخذ القصة منعطفاً نحو المقدسات حين تثار مسألةُ الدم الأميركي. ما من هُوّيةٍ للدم سوى كونه أميركيا. هل هو دمُ الاميركيين في نيويورك أو في لوس أنجلس؟ في لندن أو في باريس؟ هل هو دمُ المدنيين الأميركيين في بغداد؟ في سياق القصة يبقى الجوابُ غامضا غيرَ مفهوم، أما خارج نطاق القصة فهو معروف جيدًا. إنه بالدرجة الأولى دمُ الأميركيين المدججين بالسلاح الذين اجتاحوا العراق في العام 2003، وهو يَبثُّ في القصة رسالةً قويةَ الوقع، لكن شبه عصية على الوعي.
بما أن السوء ينبثق من أن تكون يداك ملطّختين بدم بعينه، وبما أنه دمُ الغزاة، يصبح عندئذ ردُّ الفعل الوحيد، السليم والمقبول، على الغزو والاحتلال الأميركيين هو الاستسلام للمحتل والتعاون معه. وهكذا تمتد القداسةُ من الدم إلى الغزو، ومنهما إلى الجبروت الأميركي. الدمُ العراقي الذي سفكته أيدي الأميركيين لا مكانَ له في القصة، لكن اذا حدثَ أن استعاده القارىء من عمق الذاكرة فسيلاحظ أن الاحتقار قد طاولَه ولو ضمنيا، فهو دمٌ لا قدسيةَ له ولا حُرمة، وقد وقف عائقا في وجه الغزو. قابلية محوه كليا من سردية القصة ومن ثمَّ وصمِه بالاحتقار في الوقت ذاته انبثقت من تلك الوسيلة الحيلة التي رأيناها تؤدي عملَها في التغطية الإخبارية، أي ارسال المعنى ضمن عملية التجاوز والقفز فوق ما يُراد تجاهلُه. يكاد يعبرُ تسلُّلا متجاوزًا الوعي وصولا إلى الاستقرار في خبايا الذهن.
النقطة الأساسية إذًا، هي أن إيران سيئة. نقطةٌ أخرى مهمة هي أن أميركا لا يمكن أن يكون بينها وبين أناسٍ على هذه الدرجة من السوء "مصلحة مشتركة". من هاتين النقطتين نستمد شعورا بأن تواطؤ أميركا مع إيران في عملية "التطهير العرقي" ليس من شيم أميركا وهذا يؤكد أن العم سام هو من طينة الأخيار. الخلاصةُ النهائية تصبح أن الجنرال قاسم سليماني هو حاكم العراق. بالعودة إلى أيلول/سبتمبر 2014 نشرت فورن بوليسي مقالا بعنوان "كلُّ رجالِ آيةِ الله" جاء فيه العديد من النقاط المشتركة مع هذا المقال، وقد انتهى إلى الملاحظة التالية:٤٣
"في حين تدّعي هذه الجماعات المسلحة التركيز على إلْحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية، فإنها تعدنا أيضا بانها ستكون ذات نفوذ هائل في تشكيل مستقبل المجتمع الشيعي في العراق. أيديولوجيتهم الراديكالية وعلاقاتهم التنظيمية تشير إلى أنهم سيتيحون لإيران ممارسة مستوى من النفوذ لم يسبق أن مارسته من قبل. واذا لم تبادر واشنطن الآن إلى اتخاذ ما ينبغي من الخطوات لوقف تعاظم هذه الجماعات، قد تكتشف بعد فوات الأوان، أنها في واقع الأمر قد تنازلت عن بغداد لطهران وأن العودة إلى الوراء في هذا الأمر غير واردة."
في الثنايا الكثيفة للأخلاقيات يبقى جوهر هذه القصص في السؤال التالي، لمن هي بغداد ومن يملك الأمر فيها؟ نحن نعلم أن آخر مرة كانت فيها السيادة في أيد عراقية في بغداد كانت في مطلع العام 2003. من هنا، بقدر ما يصحّ أن الايرانيين انتزعوا النفوذ في بغداد، يصحُّ أيضا أنهم انتزعوه من الأميركيين لا من العراقيين. من هنا أيضا فقد خانت النهايةُ بداياتها وانكشفت الرسالة المضمرة في المقالين: يجب ألا تتنازل واشنطن عن ثمرة اجتياح العراق عام 2003، بغداد يجب أن تبقى في قبضتها.
في مقال روجر كوهن في النيويورك تايمز جاءَ الهدف مبكَّلا بوضوح منذ البداية، فالمهمة هي المتابعة المستديمة لِلمصالح الغربية حصرا، وقد نحا المقال منحى الدفاع عن سياسة أوباما من منطلق المصلحة. واقعياً، براغماتياً، واعياً تماما للنقائص والأخطاء التي تشوبُ السياسة التي يدافع عنها، يزين كوهين شوائبها والأخطاء في كفةٍ من الميزان، في حين تنوء الكفةُ الأخرى بما يراه من أخطاء أكبر منها في السياسة البديلة. رغم التركيز على المصالح، فالمقال لا يتجاوز الأخلاقيات، لكن أسوأ الأشرار هنا هم جماعة "الدولة الإسلامية"، وليست إيران. "فلنهزم القتلة البرابرة من جماعة الدولة الإسلامية"، بهذا يطالب الكاتب مشدداً، واصفاً هؤلاء بأنهم "أحدث تعبير عن الأيديولوجيا الاسلامية السلفية المتكاثرة والقائمة على البغضاء الإجرامية حيال الحضارة الغربية والتي أنتجت الحادي عشر من أيلول/سبتمبر فضلاً عن موجات القتل الإجرامي في أوروبا."
واضح أن الكاتب أكثر اهتماما بالأيديولوجيا الإسلامية السلفية منه بالبربرية. إذا كانت بربريتهم تجعل هَزْمَهم أمراً ضرورياً، فكيف يمكن أن تُبرر عملية هزمهم بالتحالف مع ميليشيات هي بدورها منخرطة في أعمالٍ بربرية؟ مقالا الفورن بوليسي المقتبَس منهما أعلاه، كلاهما، يبرزان ليس فقط البربرية وانما أيضا كونها تُرتكب فعلا بالتحالف مع الولايات المتحدة. في مقال النيويورك تايمز يدافع كوهين عن تحالف الأمر الواقع (دون تسميته هكذا)، لكنه يتجاوز البربرية دون ذكرها. إذًا، السياسةُ لا تستهدي الأخلاق وحدَها، بل تركز ايضا على الأولويات وعلى الممكن. الايديولوجيا "المتكاثرة" لا بد من هَزْمها، إيران حاجةٌ لإنجاز هذه المهمة، وأوباما في المسلك الصحيح. كما يرى الكاتب أن سياسته موزونة بدقة وواقعية وهو لا ينجرف دون وَعْيٍ إلى المعسكر الإيراني، كما أظهره الكاريكاتور، لا، إنه يسلك بوعيه الكامل مسالك المصلحة الأميركية حيثما قادته هذه المصلحة.
3- تعليقات الرأي على معركة تكريت في "الأخبار"
نعود إلى "الأخبار" في مقالين وردا في صفحة الرأي، الأول تحت عنوان "العرب وإيران: العودة إلى الثمانينات"٤٤، بقلم عامر محسن، وهو يستعيد بالذاكرة أشباح حرب الثماني سنوات في ثمانينات القرن الماضي بين إيران والعراق شاكياً من أنها عادت تطارد الإقليم من جديد، كما يدخل في عمق العلاقة الأميركية – الإيرانية. المقال الثاني بقلم ناهض حتّر بعنوان "الحسم، في السياسة والأيديولوجيا أولا" يشدد على المطالبة بتغييرات راديكالية، سياسية وأيديولوجية في داخل المعسكر الإيراني.
أ- "العودة إلى الثمانينات"
لقد سَعَتْ أميركا، بحسب محسن، خلال العقود الثلاثة الماضية بمعظمها إلى تغيير النظام في إيران، في حين أن إيران تصرفت بعقلانية واقتصرت مساعيها ببساطة على إبعاد تأثيرات القوة الأميركية عنها. غير أن العدوانية الأميركية التي أعقبت الثورة الإسلامية والحرب الطاحنة التي فرضت عليها مع العراق "استنزفت البلد وغيرته - بعمق - من الداخل."٤٥ لولا وقوع تلك الحرب لكانت إيران "التهت بخلافاتها الداخلية وبناء النظام السياسي والتوفيق بين المصالح الاجتماعية المتناقضة"، وما كانت لتندفع نحو بناء قوة عسكرية فاعلة "واقتصاد أزمات وحصار".٤٦ وهكذا فإن "الحرب التي كان الهدف منها وأد النظام واحتواءه جعلته، للمفارقة، نظاماً عسكري الأولويات، يتحضر باستمرار للغزو".
ثم يقلّب الكاتب برويّةٍ إمكانية التغيير باتجاهٍ آخر:٤٧ "لو سقطت إيران... أو انسحبت من فعل المقاومة، فذلك يعني ببساطة "نهاية اللعبة” - عسكرياً واستراتيجياَ – لكل مشروع يتحدى إسرائيل عسكرياً، من حماس إلى حزب اللّه." مفكرًا مليًا حول "أشباح الثمانينات" والانقسامات الإثنية والطائفية التي توبىءُ الإقليم، يشير إلى "خطاب اللاوعي" في العالم العربي الذي يقدّم إيران على أنها "الآخر" وهو الخطاب الذي لا يزال الناس يفتقدون المناعة حيالَه على الرغم من تجربة الحرب الإيرانية – العراقية.٤٨ "فهذا المخيال الطائفي"، يقول، "هو وصفة لحرب أهلية دائمة في المشرق العربي".
ب- الحلول الراديكالية
المقال الثاني يطرح تغييراتٍ راديكالية في السلوك الحربي للمعسكر الإيراني.٤٩ يُسهب حتّر في شرح المسائل الجيوسياسية مركّزا على دور تركيا في دعم "الإرهاب" في سوريا، بالإضافة إلى قطر والعربية السعودية والولايات المتحدة. لكنه يقول إن "الإرهابيين" يستمدون قوتهم ليس فقط من الدعم الخارجي، وإنما أيضا من داخل المجتمع نفسه:٥٠ “... بل من قلب المجتمع نفسه، بالنظر إلى ما تصاعد من هوس جماعات وطنية بالمظلومية المذهبية، حتى أن أكثر عناصر تلك الجماعات، وطنيةً وعقلانيةً، تنطوي على تأييد ضمني للإرهاب… لا مجال للحوار مع الإرهابيين إلا بالسلاح، وعلى منهج هجومي لا يقع أسيرا لأي حسابات”.
ينتقل إلى الحلول السياسية الراديكالية "لاستيعاب الهواجس الناجمة من مشاعر "مظلومية سنية"، خصوصا في العراق، وبالدرجة الثانية في سوريا". النظام الحالي في العراق نظام طائفي، ولا بد من إعادة بناء الدولة الوطنية العراقية مع إسقاط الهُوّية الطائفية من العملية السياسية فضلا عن معالجة مشاعر الغبن لدى السنّة. التقسيم يجب رفضُه، وهذه، على الأرجح، إشارة إلى مطامح الأكراد بإقامة دولتهم المستقلة. ٥١
في سوريا، يقول الكاتب، الحل أسهلُ منالاً، ذلك أن الدستور والجيش وتركيب الدولة هي، جميعا، في الأساس وطنية، وعليه فإن سوريا تحتاج فقط إلى "مبادرة سياسية جذرية، يقررها السوريون من دون حوار مع أحد"، وإلى "حكومة حرب مفوّضة بإدارة شؤون الحرب، العسكرية والمدنية... وإعلان حالة الطوارئ والحرب الوطنية، والشروع في هجوم معاكس."٥٢ هنا يستدير الكاتب إلى حزب الله في لبنان، الذي يقول عنه إنه قرر أن يكون "حيث يجب أن يكون" في المواجهة مع "الفاشية الإسلامية، من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى الأردن" وكذلك "لمواجهة العدو الاسرائيلي في فلسطين."٥٣
"لا يستطيع حزب اللّه، الإسلامي الشيعي اللبناني، أن يتمدد – ونحن نريده أن يتمدد – بصفاته تلك؛ لا يمكنه ذلك من دون تبني الأيديولوجية القومية المشرقية العربية، فكرا وصيغا تنظيمية. وهذه الأيديولوجية هي، وحدها، القادرة على منح الشرعية الكاملة للمقاومة للتحرك في كل مكان من المشرق، واجتذاب كل... المجاهدين، على أساس الرابطة المشرقية العروبية الإنسانية الواحدة."
4- ملاحظات حول التعليق الاخباري في "الأخبار"
في "العودة إلى الثمانينات" ينحّي محسن جانبا التوصيفات الجامدة للعلاقات الأميركية الإيرانية، معتبرا أن هذه العلاقات كان يمكن أن تتخذ لها مناحي مختلفة في ثمانينات القرن الماضي، كما يمكن أن تتخذ مناحي مختلفة اليوم. التحوّل ثيمةٌ أساسية في الماضي وهو إمكانية حقيقية في الوقت الحاضر. إيران تُعمِل العقل ولا يُضيرها أن تغيّر توجّههَا استجابةً لتغيّر في السياسة الأميركية. هناك إمكانيات جديدة تظهر، بما فيها إمكانية العودة إلى الانخراط في المسار الأميركي. ثم إن هناك تداعياتٍ يمكن أن يخلّفها تغيير من هذا القبيل في داخل المحور الإيراني. يقول الكاتب إن استدارةً كهذه قد تكون ذات وقعٍ كارثيّ على الذين يتمنون البقاء في خط المقاومة والذين سيخسرون داعمًا صلبًا ملتزمًا في إقليم يَعجّ بأزلام الأميركيين. من هنا فان ما صدر على لسان الناطق باسم أحد فصائل الحشد الشعبي بأنه من المستحيل "أن يكون أي من فصائل المقاومة في نفس الخندق مع الأميركيين" قد انكسرَ أو على الأقل بات محصور المعنى، ذلك أن السردية تعترف بحقيقة التحول كما بكونه مجهول المآل.
في المقال الثاني للكاتب حتّر تُطالعنا محاولة لتكوين أساس إيديولوجي جديد لمعسكر المقاومة، وهي محاولة جارفة بدرجة لافتة. العراق مطلوب منه التخلي عن الدستور الذي وضعه الأميركيون بعد الغزو ومن ثم إعادة "بناء الدولة العراقية الوطنية" المتحررة من السياسة القائمة على الهُويات. أما الأكثر تجرؤا فالطلب من حزب الله التخلي عن إيديولوجيا تبناها منذ لحظة انطلاقته في مطلع ثمانينات القرن الماضي وصَوْغ إيديولوجيا جديدة.
يريد الكاتب من الحزب أن ينتقل إلى إيديولوجيا "عربية مشرقية" غير واضحة المعالم، وذلك "على الصعيدين" الفكريّ والتنظيميّ، إذ وحدها هكذا إيديولوجيا يمكنها اجتذاب كل "المجاهدين" في الإقليم وهي تضع حداً لعدم الرضى السنّي. لعلّ التلميح الضمني هنا هو أن ما يفعله حزب الله في سوريا لا علاقة له بما يُغضب السنّة، فغضبُهم ناتجٌ فقط من الخطاب الذي يعلنه الحزب. إذًا على حزب الله أن يبادر بوعيٍ إلى الانطلاق في عملية تحولٍ وهو في قلب المعركة، وفيما هو يغيّر لونه يمكنه تصعيد الحرب والتمدد عبر الإقليم فضلا عن أن يعود محبوباً. أما النظام السوري فلا حاجة به إلى أيّ تحوّل، كل ما فيه وطنيّ منذ انطلاقته، تركيبة الدولة، دستورها وجيشُها. الشيء الوحيد الذي تحتاج هذه الدولة المثالية القيام به هو أن تطلق "حواراً وطنيًا شاملاً" يستثني الشخصيات المعارضة والجماعات المسلحة معاً.
نحن، إذًا، أمام معطىً اسمُه الطائفية الضاربة جذورها في صميم المجتمع عابرةً للحدود، نجدنا أمام سؤالين اثنين: ما سببُها (الطائفية)، وكيف السبيل إلى حلّ معضلتِها. ويلات وآلام أربع سنوات من هجمات آلة الحرب التابعة لمعسكر "المقاومة" والتي شملت، أو كادت، كل مقاومة في سوريا، كلها مُسحت بجرّة قلم كأن من غير الوارد ان تكون قد ساهمت بتجذر الطائفية. ومثلُها أيضًا كل التراث المتراكم للدولة البوليسية. هذا التجاوز لا يتم فقط من خلال تجاهل تلك الويلات دون الإشارة إليها، ولكن عبر تمرير فكرة عدم وجود تناقض بين الحفاظ على النظام وتصعيد وتيرة الحرب من جهة، والبدء في معالجة الانقسام الطائفي من جهة أخرى.
يطرح التعبئة لشن الحرب كما لو كانت عمليةً بسيطة، فالشيعة لن يتوانوا في الاحتشاد تحت راية حزب الله بعد أن يغيّر لونه، والمنتسبون الجدد (المفترضون من السنّة) سوف يتدفقون من كل أنحاء الاقليم. لم تأتِ الوصفة الراديكالية على ذكر الأكراد، فإذا أصبح الكل عرباً مشرقيين يحاربون جنبًا إلى جنب، ماذا تراه يكون مصير الأكراد في العراق وسوريا؟ فلا هؤلاء ولا أولئك وجدوا لهم يوماً مكاناً في أيٍّ من دولتي صدام حسين وآل الأسد العربيتين. في الأولى تمّ تهجيرهم وقتلُهم بالغازات السامة، وفي الثانية عوملوا كأنهم غرباء غير مواطنين. هؤلاء ماذا سيكون ردّ فعلهم حيال إيديولوجيا عربية متجددة تسعى إلى إلغاء هُويتهم وإجبارهم، مرةً أخرى، على الخضوع لهويةٍ أخرى تستثنيهم؟
طوال عقود شكّل معسكر المقاومة رمزا لمقاوِمة القوتين الأميركية والإسرائيلية في الإقليم. حزبُ الله، بصورةٍ خاصة، كان الفريق الأضعف ولكن ذا العزيمة والتصميم، الذي كان يردّ على الضربات بنجاح ويتلقى التهليل من جماهير الإقليم الذين قلَّما أبدوا اهتمامًا بهُويته الطائفية. كان العنصر المحوريّ في هُويتهم فكرتهم أنهم يحاربون دفاعًا عن المحرومين والمستضعفين، وكان لهذين التعبيرين وقعٌ خاص لدى المهجرين من جنوب لبنان الذين هربوا من القصف الإسرائيلي واستقروا في الضواحي الجنوبية لبيروت في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، حيث شكلوا ما سُمّي آنذاك "حزامَ البؤس" حولَ العاصمة.
اليوم بات السوادُ الأعظم من المستضعفين في المعسكر المقابل، فقد سحقتهم آلة حرب معسكر المقاومة وتدفقوا أفواجاً من حمص وحلب، من درعا ودمشق، إلى أحزمةٍ أكثر غرقا في البؤس منتشرةٍ في معظم أرجاء الإقليم. فيما "محور المقاومة" يَستطلع الخطوطَ الإقليمية الجديدة، يجد أفرقاؤه أنفسَهم يغرقون في حربٍ طائفية مفتوحة الآفاق وينزلقون نحو الخندق الأميركي. ماذا عساه يكون هدف هذا التحالف إذا كفَّ عن أن يكون مقاومة النفوذ الأميركي؟ من هنا ينبثق فراغٌ أيديولوجيّ، فارضًا لحظاتٍ من التفكير الذاتي. لكنّ الحرب لا بد أن تستمر، أما الفراغ فيُملأ بالأقنعة والأوهام.
3- البحيرة المرّة Bitter Lake
"البحيرة المرة" فيلم وثائقي من إنتاج BBC، طولُه ساعتان تقريباً ويتناول أكثر من سلسلة قصصية في إطار إنتاجي حُرّ، ثم يربط فيما بينها جاعلا منها قصةً عن السرديات.٥٤ سأتناول هنا بالخصوص اثنتين من هذه القصص المتداخلة، الأولى تدور حول الأيديولوجيا الوهابية، "... مذهبٌ إسلاميّ راديكالي، عنيف، ومُغالٍ في الطهرانية"، معتنقوه "أرادوا العودة إلى عالمٍ قائمٍ على تعاليم النص الإسلامي الأصيلة". والقصة الثانية تتناول ثنائية المصارف والنفوذ السياسيّ في الغرب.
في العام 1929 تكتّل متشددو الوهابيين مع زعيم قبيلة آل سعود، عبد العزيز، بغية انتزاع السلطة في مناطق شاسعة من شبه الجزيرة العربية. لكنّ مطامحَ الوهّابيين كانت أكبر من مجرد الإتيان بعبد العزيز إلى السلطة في شبه الجزيرة، فقد "أراد هؤلاء الذهابَ نحو إقامة خلافةٍ تمتد عبر العالم العربي بأكمله، ولكي يوقفهم عند حدّهم، في العام 1929، فتح عبد العزيز عليهم نيران رشاشاته."
أقام الملك مملكته على القسم الأكبر من شبه الجزيرة، في حين كان احتياطيُّ النفط في تلك الامتدادات الشاسعة بانتظار الحفر والإستخراج. لكن هذه عملية تتجاوز قدرات عبد العزيز وحدَه، حتى كان العام 1945 حين التقى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في البحيرة المرة الكبرى (Great Bitter Lake) في قناة السويس. كان روزفلت قد خرج منتصرا للتوّ من أزمتين شكلت كلٌ منهما تجربةً قاسية، حربٍ عالمية وكساد اقتصاديّ حاد. بعد الانهيار في وول ستريت أصدر قوانين تحدّ من حرية المصارف، وأطلق عملية إعمار واسعة شملت كل أرجاء البلاد. الآن، أراد الرئيس الأميركي أن يضمن إمساك بلاده بالنفط السعودي، وهكذا توافق مع الملك على شروطِ تحالفٍ "يستمر مفعوله ساريًا حتى يومنا هذا: "النفط لأميركا، والثروة والأمن للعربية السعودية."
انطلقت عملية التحديث التي حولت العربية السعودية من مجتمع بدوي إلى منتجٍ للنفط. ولكن مع تولّي الملك فيصل العرش في أواسط ستينات القرن الماضي كانت المملكة تواجه تهديداً متجدداً. في الداخل لم تتقبل المؤسسة الدينية "التي جاءت بعائلته إلى السلطة ومنحت حكمه شرعيتَه،" مشروع التحديث، وفي الخارج كانت الشيوعية توسّع انتشارها في أرجاء العالم العربي. قرر الملك أن يستخدم أحد التهديدين في مواجهة الآخر، ومع تعاظم مداخيل النفط راح يُنشىءُ "مئات المدارس والمعاهد على امتداد العالم الإسلامي" بهدف نشر الفكر الوهّابي وتأسيس قوة قادرة على الوقوف بوجه الشيوعية. كان "يأخذ التعصّب الخطير والمزعزع للاستقرار المقيم في صُلب المجتمع السعودي، ويُلقي به إلى الخارج بعيدًا عن حدود مملكته."
هنا يحملنا مسار القصة إلى العام 1973، حيث رفعت العربية السعودية أسعار النفط خمسةَ أضعاف رداً على الدعم الأميركي لإسرائيل خلال الحرب العربية – الإسرائيلية. أما النتيجة فكانت "تدفق مليارات الدولارات من الغرب إلى صناديق العربية السعودية، وقد احتار السعوديون كيف ينفقون معظم هذا الكمّ من الأموال الطائلة."وجدت الأموالُ طريقها إلى المصارف الغربية وكان لذلك تداعياتٌ غير متوقعة:... لقد سَمحتْ للرجال الذين يديرون المصارف والنظام الماليّ في أميركا وبريطانيا أن يبدأوا التفلّت أحرارًا من الخضوع للمراقبة السياسية... المصارف... أبقت مبالغ كبيرة من تلك الدولارات خارج نطاق عين المراقبة الحكومية... فتحولت تلك المصارف إلى مستوعبٍ عملاق لتراكم ماليّ عُرف بالبترودولار، وكان بالإمكان أن يُقرَضَ أو يتم التعامل به في أيّ مكانٍ في العالم دون مراقبة سياسية. وفيما كان السياسيون الغربيون يجهدون للتعامل مع الفوضى الاقتصادية والاجتماعية التي خلّفها ارتفاع أسعار النفط، كان مصرفيوهم مشغولين ببناء نظامٍ ماليٍ عالميٍ جديد قائمٍ على إعادة تدوير المليارات السعودية. وهكذا عادت المصارف تتمتع بالثراء والنفوذ."
فجأةً، في العام 1979، واجهت المملكة السعودية حالة تمرد حيث قامت مجموعة من الأصوليين الوهّابيين بحركة ثورية في مكة واحتلّت المسجد الحرام. يومها اكتشفت السلطات أن بعض المهاجمين "تعلموا على يدي أعلى المراجع الدينية في البلاد،" ما يشير إلى مدى "هشاشة قبضة القيمين على السلطة." في تلك الأثناء كان الرئيس ريغان يطلق حملته لدعم الثوار الأفغان الذين كانوا يحاربون الاحتلال السوفياتي. وكالة الاستخبارات المركزية – CIA – والاستخبارات السعودية عملتا معاً في إيصال السلاح والمال إلى الثوار، لكنّ السعوديين ذهبوا أبعد من ذلك. طَعمُ الصدمة من تمرد مكة المسلّح كان لا يزال طازجًا تحت أضراسهم، فأخذوا "يشجعون الشباب المتطرف على الذهاب إلى أفغانستان والانخراط في الحرب هناك" للتخلّص من التهديد الأشد خطرًا في الداخل. من بين الذين استجابوا وذهبوا إلى أفغانستان كان أسامة بن لادن.
كان الغرب لا يزال يترنَّح تحت وطأة ارتفاع أسعار النفط والفوضى الاقتصادية والاجتماعية. مصانع أقفلت أبوابَها، ومستوى المعيشة كان في هبوط وسط تجمد الأجور على ما كانت عليه. هكذا قرر السياسيون "دفع المصارف إلى قبول طلبات القروض... في أواسط الثمانينات رفعت الحكومات قيودَها عن المصارف في ما يخص الإقراض لتغمرَ موجةٌ عارمة من الاستدانة بريطانيا وأميركا... ومع هذه الموجة أخذ انتقال سلطة إدارة المجتمع من السياسة إلى النظام المالي يزداد حدة. على الرغم من الانهيار الصناعي عموماً، بقيت الصناعة العسكرية تشهد تنامياً كبيراً طوالَ فترة السبعينات، وقد "وقّعت شركات السلاح البريطانية مزيداً من عقود بيع السلاح إلى السعوديين". كانت هذه التجارة قد أصبحت "بمنتهى الأهمية بالنسبة إلى بريطانيا"، لكن في العام 1991، عندما اجتاح صدام حسين الكويت، اكتشف السعوديون "عدم قدرتهم" على استخدام السلاح كما يجب، "وكان عليهم اللجوء إلى الأميركيين للاستعانة بقدراتهم العسكرية المتفوقة." عائدًا لِتوِّه من أفغانستان، شقَّ على أسامة بن لادن أن يبتلع فكرةَ دخول قوات عسكرية أميركية إلى شبه الجزيرة، فقصدَ إلى وزير الدفاع السعودي يرجوه عدم السماح لتلك القوات بدخول البلاد عارضاً أن ينشىء في أفغانستان قوةً محارِبة للدفاع عن العربية السعودية ضد صدام، لكنه عادَ مخذولا. في نهاية المطاف قرر بن لادن أن أميركا "هي العدو الحقيقيّ".
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 عمدت الحكومة الأميركية إلى خفض الفوائد بنسبة عالية جداً، فراحت "المصارف تُقرض أيَّ طالب قرض، وكلَّ طالب قرض." كان السياسيون "يتطلعون إلى النظام المالي سبيلا إلى إعادة الاستقرار إلى البلاد." كذلك اجتاحت الولايات المتحدة أفغانستان في العام 2001 والعراق في العام 2003، شاقةً بذلك مَعبرًا جديدا للوهابية. أبو مصعب الزرقاوي، الذي كان مع بن لادن في أفغانستان، ذهب إلى العراق وأنشأ فرع القاعدة هناك، وما لبث الأميركيون أن "ألقَوْا عليه قنبلة كبيرة."
في هذه الأثناء، شهد العام 2008 أزمةً أخرى، فقد "انهار بكلّيته نظامُ الأرصدة والقروض المتشابك والمعقّد الذي أقامته المصارف" لكن "خلافًا لما فعلَه الرئيس روزفلت،" لم تحاول الحكومات إصلاح النظام، "وانما، ببساطةٍ متناهية، عمدت إلى تعويمه بأن لجأت، بالمعنى الحرفي للكلمة، إلى سكب المزيد من ملايين الدولارات والجنيهات في صناديق المصارف... لم تُسعفهم عقولُهم بأكثر من ذلك."
أما أفكار الزرقاوي فشهدت مزيدًا من الانتشار:
"على الرغم من وفاة الزرقاوي بقيت منظمتُه حيةً وأخذت تتحول نوعياً إلى منظمةٍ أشد شراسةً وأبعد طموحا... في العام 2013 تشكّلت الدولة الإسلامية في العراق والشام...هدفها إقامة خلافة موحدة تمتد على كامل العالم الإسلامي... إنها، في صميمها، تجسيد لنفس الحلُم الدموي الذي شكّل قوة الدفع لدى جماعات البدو الذين أقاموا المملكة العربية السعودية في عشرينات القرن الماضي. في تلك الفترة وجد ملك العربية السعودية أنه من الضروريّ أن يحاول القضاء التام عليهم... ففتح عليهم نيران رشاشاته فوق كثبان الرمل في غياهب الصحراء، وها هم السعوديون اليوم، بمشاركة البريطانيين والأميركيين يحاولون أن يفعلوا الشيء ذاته مرةً أخرى، أن يقتلوا الجهاديين وأفكارهم فوق كثبان الرمال في شمال العراق وفي سوريا."
ملاحظات
بشكلٍ أو بآخر، تنتهي "البحيرة المرة" حيث تبدأ القصصُ الأخرى. على مدى ساعتين أو أكثر، يتابع الراوي أحداثاً لعدة قصص في كابُل وهلماند وواشنطن ولندن وموسكو، والإشارة الوحيدة إلى العراق وسوريا ومجريات الحرب الحالية ضد تنظيم الدولة الإسلامية لا تأتي إلا مع اقتراب القصة من نهايتها. كم يبدو غريباً، إذاً، أنها تخبرنا عن العراق وسوريا اليوم أكثر من أيٍّ من القصص التي مررنا بها أعلاه.
في القصتين اللتين استعرضنا مضمونهما، حول الوهابية والمصارف، نقع على سياقٍ لافت بأهميته. بدايةً، هناك تركيز مشدّد على العربية السعودية وعلاقتها بالوهابية، فما دامت الإيديولوجيا لا تشكل تحدياً للعائلة المالكة لا ترى المملكة بأساً في تغطيتها وحمايتها، أما حين يبلغ الأمر بالإيديولوجيا حدَّ إنبات متزمتين يبغون الوصول بمعتقداتهم إلى نهاياتها المنطقية، عندئذ يصار إلى سحقهم في الداخل وتوزيعهم على الخارج لكي ينشروا أفكارهم هناك. هي ذي الدينامية الأساسية الكامنة وراء انتشار الفكر الوهابي خلال الردَح الأكبر من القرن الماضي، فضلا عن القرن الحاضر بكامله. "البحيرة المرة" يقتفي أثرَ رحلةِ هذه الأفكار. بفعل آلة الدفع المكوَّنة من مزيج المال والعَصبيّة المتَزمتة، تَعبر الأيديولوجيا من شبه الجزيرة العربية إلى المدارس والمساجد حول العالم، وتنتهي ضاربةً جذورَها في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا.
هنا تظهر أمامنا شخصياتٌ وعلاقاتٌ كادت تكون غير مرئية على الإطلاق في القصص الأخرى التي مررنا بها. المصارف والصناعات العسكرية تلعب أدواراً مهمة في علاقات الغرب بالعربية السعودية، وكذلك في توازن القوى الداخلي في كل من واشنطن ولندن. يعاد تدوير البترودولار، تباع الأسلحة ومن ثم ينتقل مركزُ النفوذ من الرسميين المنتخبين إلى أرباب المصارف. الآن يمكننا أن نرى دائرة السلطة والثروة التي تَدفّقَ من خلال أقنيتها المالُ والنفط والسلاح طوال عقود من الزمن، إنها الدائرة التي تقع في صُلبِ هذه القصة.
كم تبدو ضيّقةً الآن نقطةُ الارتكاز في الأخبار والتعليقات، وكم هي متشابهة تلك القصص التي بانت لنا مختلفةً تمامًا من قبل. الآن فقط بات بالإمكان أن نلحظ ذلك بعد أن أتيح لنا مصدرٌ بديل، قاصٌ لا يتوانى في فتح عدسة كاميرته على استدارتها الواسعة بحيث يمكّننا من رؤية اللاتوازن الكبير الذي يشكّل خلفية لأية قصة تتعلّق بالأيديولوجيا الوهابية، ويتوارى هذا اللاتوازن أيضاً في خلفيات العديد من القصص الأخرى. كذلك تتيح لنا المقارنة أن نلتقط لعبةَ الخداع والتضليل على نطاقها الجارف في ميدان الأخبار والتعليقات، وأن نلاحظ القدرة على مسح الأسس التي تقوم عليها القصة بصرف أنظارنا عنها بالقصف المستمر 24/7 باللاقصص.
معركة تكريت كانت مثلا كلاسيكياً. هذا لا يعني أن المعركة نفسها ليست مهمة، ولكنّ الاشكالية هي في الاطار الذي وردت فيه التقارير عنها. كان يكفي أن توسّع الكاميرا حدْقةَ عدستها قليلا لتتذكرّ أن أميركا تقصف بالقنابل الدولة الاسلامية على كامل شمال العراق وسوريا. ألا تؤثر هجماتُهم في تلك المساحات الشاسعة في جهود تنظيم الدولة الإسلامية في تكريت، وفي قدراته على المناورة وإعادة التمكين، وفي تغيير محاور القتال؟ حتى لو لم يدخل الاميركيون معركة تكريت مباشرة، كان مقدرًا لحملتهم أن يكون لها وطأةٌ سلبيةٌ على التنظيم، وفي المقابل وبالتزامن وطأةٌ إيجابيةٌ على الحشد.
الانطباع بأن هناك فاصلاً بين الجهود الأميركية وتلك الإيرانية لا يوجدُه إلا تصوّرنا بأن معركة تكريت لا تتأثر بتطوراتٍ عسكرية في مكان آخر من ميدان القتال، وهذه نظرة ضيّقة في فهم القصة ومن ثمّ روايتها. ثم لِنستعِدْ من الذاكرة "الأيديولوجيا السلفية المتكاثرة" والقائمة على "البغضاء الإجرامية حيالَ الحضارة الغربية" التي اعتبرها روجر كوهين في النيويورك تايمز المستهدفة من الحرب القائمة حاليًا، والتي تشكل هزيمتُها إحدى الأولويات التي "تضرب جذورها في صُلب المصلحة الغربية."
إن استخدام مفهوم التكاثر (أو الانبثاث بالتعبير العلمي) الذي يُعرَّف بأنه "انتشار الأورام الخبيثة على مسافةٍ من منشأ السرطان الأساسيّ"٥٥ ، يشير إلى فهم دقيق لدى كوهين لطبيعة الأيديولوجيا التي نحن بصددها. لكن أين هو "المنشأ الأساسي" في سرديّته؟ إذا كان هدف الغرب من حربه الجديدة هو هزيمة الأيديولوجيا، فالصيغة التي اختارها ما فتئت تنفخ بنارها وتُضرمها على مدى عقود، تغطيةً فتصديراً فقصفاً. ثم ماذا عن تلك الشبكة من السلاح والنفط والمال التي حَمَتْ هذه العملية ومكّنتها طوال عقود؟ حين ننظر إلى هذه الشخصيات والعلاقات، تبدو لنا المصالحُ الوطنية الأميركية مصالحَ خاصةً أكثرَ منها وطنيةً، أما "صلب المصلحة الغربية" فيبدو أكثر شراً وفساداً منه حضارياً. وحدَه تغييب هذا السياق التاريخي من السردية يتيح لكوهين إيصال فحوى رسالته بشيءٍ من الإقناع: إن الحرب مع إيران الآن، كما أنذرنا الكاتب، سوف تكون حرباً "عقيمة الهدف، او أنها قائمة على ادعاءاتٍ كاذبة. كفانا حروباً من هذا النوع." حسنا، إذا ماذا تراه يكون هدف الحرب الحالية على "الدولة الإسلامية"؟
4- "الدولة الإسلامية"
"يا أهل السنّة، لقد بات التحالف الصليبي الصفوي اليوم واضحاً، وها هي إيران مع شيطانها الأكبر أمريكا تتقاسم المناطق والأدوار في حرب الإسلام وأهل السنّة". الشيخ أبو محمد العدناني، المتحدث باسم الدولة الإسلامية٥٦
نراجعُ هنا بعض القصص من العراق وسوريا كما أوردَتْها مجلتُهم باللغة الإنكليزية، دابق. سأستعرض مقاطعَ من أربعة مقالات نُشرت في عددين مختلفين من المجلة.
1- معاقبة الشعيطات على خيانتهم"57"
الأمر هنا يتعلق بالعقاب الذي أنزله تنظيم الدولة الاسلامية بإحدى القبائل في شرق سوريا في العام 2014، لكن الكلام يبدأ باقتباسٍ من أبي مُصعب الزرقاوي ورد على لسانه قبلئذٍ بحوالى عقد من السنين: "فنحن نحذّر العشائر بأن كل عشيرة أو حزب أو جمعية يثبت تورطها وعمالتها للصليبيين وأذنابهم من المرتدين فـ والذي بعث محمدا بالحق لنقصدنهم كما نقصد الصليبيين ولنستأصلن شأفتهم ولنفرقن جمعهم. فما هو إلا معسكران، معسكر الحق وأتباعه ومعسكر الباطل وأشياعه."
بعدها ينتقل الراوي إلى تقييم بيان الزرقاوي، أولا عبر العودة إلى ردود الفعل لدى العديد من المسلمين الذين تساءلوا، ما علاقة الأفراد المنتمين إلى القبيلة بما يقوم به بعضُ أبنائها، أو حتى بقراراتِ مشايخِها وكبارِها؟ هؤلاء الناس، تقول القصة، "يفترضون أن ‘مدينة الحداثة’ حيث يسود التفرّد والنزعة الفردية تختصرُ كل ما هو موجود خارج بيوتهم".
الجواب على اعتراضهم يأتي في شقين، أولا، "الحالة تختلف في العديد من أنحاء العالم،" حيث لا تزال قبائل كثيرة تتصرف "كجسمٍ واحد ذي رأسٍ أعمى التعصّب، أو كعصابةٍ مَسَّها جنون الغوغاء والعنجهية القبلية..." الأهم من ذلك أن "النبيّ (صلى الله عليه وسلّم) تعامل مع قبائل العرب وبني إسرائيل كجماعاتٍ متحدة عندما كان أفراد منهم يَخلفون عهدَهم معه." لا يكون أبناء القبيلة في حِلٍّ من العقاب إلا في الحالات التي "تمتنع فيها القبيلة عن التصرف كجماعةٍ في مخالفة الشريعة."
وَلْنعد أخيرًا إلى القصة المشار إليها في العنوان، "معاقبة الشعيطات على خيانتهم.”
"هذه العشائر تُركت لها أسلحتُها بعد أن وافقت على الخضوع لحكم الشريعة وبشرط أن تسلّم أسلحتَها الثقيلة. لكنهم عادوا وخانوا العهد بتمردهم على الدولة الإسلامية، فقد نصبوا الكمائن لجنود الدولة، ثم عذبوا السجناء الذين كمنوا لهم وقطّعوا أطرافهم وأعدموهم. كل هذه الجرائم ارتكبت عصيانا على تطبيق الشريعة. بعد كل هذا طوقت الدولة الإسلامية قراهم وأمرتهم بتسليم مرتكبي الجرائم ضد الإسلام والمسلمين، ولكن أكثرية عشائرهم رفضت الاستجابة…"
2- تحرير دابق"58"
هذه تبدأ كقصةٍ إخبارية عادية؛
`هذا الشهر شنَّ جنود الدولة الإسلامية هجوماً وحشياً صاعقاً في الريف الشمالي لمدينة حلب."
الهجوم "نجح في تحريرِ عدد من البلدات والقرى،" بما فيها دابق، "التي سيلاحظ قراؤنا دون شك أن مجلتنا تحملُ اسمها." ثم يفسّر الكاتبُ نَبوءةَ الملحمة الكبرى التي ستبدأ في دابق وتنتهي مع نزول "عيسى بن مريم" الذي سيقود المسلمين إلى النصر. نسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين يوم الملحمة ويثبت أقدامنا حتى النصر أو الشهادة."
3- ولادةُ ولايتين جديدتين "59"
في العدد الرابع تعلن المجلة إقامة ولاية جديدة عابرة للحدود بين العراق وسوريا:
"بعد إزالة الحدود السورية/العراقية التي أوجدها الصليبيون لتقسيم المسلمين وتفريقهم وتقاسم أرضهم تثبيتًا لسيطرتهم على الإقليم، وجّه مجاهدو الخلافة ضربةً إضافية إلى الوطنية وإلى حدود سايكس/بيكو التي تُجسِّدها. لقد أعلنت الدولة الإسلامية هذا الشهر إنشاء ولاية الفرات الجديدة بغية إزالة كل آثار حدود الكفر الوطنية من قلوب المسلمين."
4- نصائح للذين يهمّون بالهجرة "60"
خرج العدد الثالث من دابق تحت عنوان "دعوةٌ إلى الهجرة"، وهو يحثّ المسلمين حيثما كانوا على البدء بالتخطيط لرحلتهم إلى الدولة الإسلامية. هذا المقال يورد عدداً من النصائح كانت الأخيرة منها نصيحةً لتجنّب الكبرياء والعنجهية:
"قال ابنُ القيّم (رحمه الله)،
وقد ثبت في الصحيح عنه (صلى الله عليه وسلم) أَنه قال:
"لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذِرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ.”
قالوا: يا رسول الله، الرجلُ يحبّ أن تكون نعله حسنةً
وثوبه حسناً أَفذلك من الكِبْر فقال: "لا إنّ الله جَمِيلٌ
يُحِبُ الْجَمَالَ. الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقَّ وَغَمْطُ النَّاسِ". (صحيح مسلم)
فبطرالحقِّ جَحْدُه ودَفعُه بعد معرفته وغَمْطُ الناس النظرُ
إليهم بعين الازدراء والاحتقار والاستصغار لهم ولا بأس بهذا اذا كان لله وعلامته أن يكون لنفسه أشد ازدراء واستصغارا منه لهم فأما إن احتقرهم لعظمة نفسه عنده فهو الذي لا يدخل صاحبُه الجنة.
[روضة المحبين]...
الله أعلم. نسأل الله ان يسهل هجرتكم. آمين."
ملاحظات
كأننا أمام عالمٍ مختلف حين ندخل في سرديات الدولة الإسلامية. نرقبُ في دابق قيماً ومبادىءَ أخلاقيةً معبَّراً عنها بمنتهى الوضوح، خلافًا لما نراه في وسائل الإعلام الغربية معبراً عنه ضمناً تحت طبقاتٍ من الضبابية والتمويه. في الدولة الإسلامية يبدو أنهم يقولون ما يعنون، ويعنون ما يقولون، فالقيم والمعتقدات التي يعظون بها هي القيمُ والمعتقدات التي يمارسونها، كما يبدو أن أعمالهم تطابق أقوالهم. يلتزمون في أدبياتهم ثباتا قيميا لم نَشهَدْه عند سواهم. فَلْنأخذ تشريحهم لمجزرة الشعيطات. بدايةً يمهدون للموضوع بأن يشرحوا المفهوم العشائري، ثم يشرحون ما قاموا به من أعمال طبقًا للقيم التي يؤمنون بها. ما قاموا به حيال الشعيطات كان موضعَ انتقادٍ قاسٍ جداً من قبل أعدائهم في سوريا والعراق، وكان بإمكانهم إغفال الحديث كلياً عن المسألة أو حتى إنكار وقوع المجزرة كما يفعل بعض مرتكبي المجازر في المنطقة.
كونُهم أدلَوْا بدفاع عما قاموا به يشير إلى أنهم لا يكترثون بما يفكر فيه الآخرون عنهم. هذا صحيح، لكن إلى حدٍ ما وليس كلياً. ففي حين هم يمتنعون عن تغيير أعمالهم أو معتقداتهم بغيةَ الإنسجام مع الآخر، فإنهم يبذلون ما أمكن من جهد لإقناع هذا الآخر، خصوصاً المسلمين الذين يريدون إقناعهم بأحقية قضيتهم، بأن يغيروا هم رأيهم. من هنا كان تشريحهم لمجزرة الشعيطات الذي رمى إلى إظهار كونهم تصرفوا بما يمليه عليهم الإسلام، بناءً على تفسيرهم له.
كذلك تتميز القصصُ الإخبارية في إعلامهم بالهجوم الثابت والمتكرر على المفاهيم السائدة حول ما هو طبيعيّ، وما هو خير أو شرّ. نلاحظ على سبيل المثال ورود كلمة "وحشيّ" في المقال الذي تناول تقدمهم في حلب، فالوحشية تُستعمل عادةً بمثابة تهمة تشويها لسمعة العدو وصورته، لكنها هنا استُخدمت توصيفًا لأعمال الدولة الإسلامية ذاتِها. الرسالة المتضمّنة هي أن الوحشية في العمل الحربي هي أمر طبيعيّ وليست بالضرورة عملاً سيئاً. من خصائص إعلامهم أيضا المزجُ ما بين المادي والمعنوي الفكري، كما في المقال حول إنشاء ولاية جديدة، ولاية الفرات. تذكر الرواية اللاتوازن الذي استمر قائما طوال قرنٍ تقريبا، وهو التقسيم الاستعماري للعراق وسوريا الذي تزامن مع صعود الفكرة الوطنية في العالم العربي.
يتكوّن اللاتوازن من قسمٍ ماديّ خارجي تجسّده الحدود، ومن الأيديولوجيات القومية التي تَجذّرتْ في عقول الناس. بتدميرها الحدود وإلغائها، أنجزت الدولة الإسلامية العبور من حالة مادية إلى أخرى، لكنها من خلال إنشائها وحدةً إداريةً جمَعتْ بين جانبي الحدود السابقة، ابتغت أن تقلب الحالة الذهنية الجماعية التي رافقت التقسيم الاستعماري الى نقيضها.
ولا يخفى المنحى الروحي في أدبياتهم، مثالُ ذلك كيف انتهى المقال الذي تناول تقدم قواتهم نحو دابق برفع الصلاة إلى الله لكي "يجعلنا من المؤمنين يوم الملحمة." الفكرة هنا هي أن القوة الإيمانية، مهما بلغت، قد تَهدي مقاتلي الدولة الإسلامية اليوم، ولكنها يمكن أن تذهبَ هباءً منثورا غدا. هنا يكمن الاعتراف بهشاشة الإنسان الفرد، والإمكانية المرعبة للتحوّل من الإيمان إلى عكسه. المثل الأقوى وقعًا بالنسبة إلى النزعة الروحانية نجده في النصيحة المسداة إلى الذين يَهِمون بالهجرة، فهذه يجب أن تكون مصحوبةً بالتواضع، ذلك أنّ مقدار "ذرة من كِبْر" يمكن أن يذهب بكل ما يظن المسلم أنه قدمه في عبادته لله، وأن يحرمه بالتالي الثواب الأعظم وهو جنةُ الخلد.
يكاد النظام الأخلاقي يكون مرئيا في كل قصة من قصص "الدولة الإسلامية"، فهو يستند الى القرآن وأقوال النبيّ وصحابته وأفعالهم كما رويت عبر الأجيال. من هذه السرديات الإسلامية المبكّرة، يستخلص تنظيم الدولة الإسلامية المعنى ويعود به إلى الزمن الحاضر بحيث يطبق على الوضع القائم حاليا. وهكذا، باستمداده خزينًا يكاد لا ينضُب من القصص، يعمد التنظيم إلى بناء عالمه الأخلاقيّ. في حالة الشعيطات تكمن العبرةُ في أن العشيرة التي تأتي – كعشيرة - عملاً جماعيا، يخالف الشريعة، تجبُ معاملتُها جماعياً كعشيرة. أما في المقال عن الهجرة فالعبرةُ هي في أن الذين يقومون إلى الهجرة عليهم ألا ينظروا باستعلاء إلى الآخرين لأنه "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ من كِبْر".
إن أقوالاً من مثل "قال ابنُ القيّم (رحمه الله)" و"ثبت في الصحيح عنه"، تشكل بداياتٍ نموذجيةً لقصصٍ عن أشياء قالها النبيّ أو أعمالٍ قام بها، وبالتالي تمهيدا لاستخراج العبرة الأخلاقية من كلماته وأعماله وإسقاطها على الزمن الحاضر. هذه من السمات التي تشترك فيها الدولة الإسلامية مع جماعاتٍ جهادية وإسلامية أخرى، ذلك أن الاسلاميين جميعا يستمدون من خزين السرديات الهائل، العائد إلى الأيام الأولى للاسلام، ما يُثري إلْهامَهم الأخلاقيّ والروحي والسياسي. وللوصول إلى ذلك عليهم أن يمخروا عُباب المحيطات الكبرى مما رويَ وقيل، شبكة تكاد لا تنتهي من القصص، كلها تُروى بهدف استخلاص العبر الأخلاقية من كلمات النبي وأعماله، وكلماتِ وأعمالِ الصحابة بغيةَ تطبيقها اليوم. كما يشرح طريف الخالدي في مقدمة كتابه "صور محمد" بأن ذلك التراث يدور حولَ "السردية الأساس" عن حياة النبي.٦١
"يبدو أن كُتّاب السيرة المسلمين قرروا، منذ تاريخ مبكّر، أن تشمل سِيَرُهم عن النبي أسماء كل رجلٍ أو امرأة كان لحياته أو حياتها، بطريقة أو بأخرى، علاقةٌ أو تقاطعٌ ولو عبورًا بالسردية الأساس. كأننا بأحد كتّاب الإنجيل الأوَل – على سبيل المثال –قرر أن يُتخمَ حدثي الموعِظَة على الجبل، وإطعامِ الخمسةِ الآلاف، بأسماء أولئك الذين كانوا حاضرين فردًا فردًا، مع نبذةٍ، قصيرةٍ أو طويلة، عن حياة كلٍ منهم وإلى أين انتهت."
سرديات تلك المرحلة المبكرة للإسلام تتداخل مع السرديات الإخبارية لتنظيم الدولة الإسلامية، كما تظهرُ في خطاب كل الجماعات الجهادية والإسلامية. وبموازاة الحروب المشتعلة في سوريا والعراق يستمر النقاش بين مختلِف هذه الجماعات حول التاريخ الإسلامي ويخالفُ بعضُها بعضا في معاني تلك القصص دفاعا من كلٍ منها عن مواقفها الأيديولوجية والسياسية.
لا تبدو المهمة سهلة. طريف الخالدي يطرحُ أمامنا هذا المشهد حول المعضلة التي تعمُّ كل كُتُبِ السيرة إطلاقا:
"... يأخذ كاتبُ السيرة شبكةَ إحداثياتٍ مرجعية ويبدأ مَلْأها بمعطياتٍ عن حياة صاحب السيرة... رسمٌ بيانيّ بتسلسلٍ زمني تصبحُ معه حياةُ الشخصِ المعنيّ جاهزةً لسرد مسيرتها... لكن أيًا تكنِ الستراتيجيا المتّبعة، يبقَ أمامَنا السؤال المقلق والمحيِّر الذي لا مفرَّ منه...، ‘ماذا تُراها كانت حقيقةُ هذه الشخصية؟‘ "السيرة"، في تحديد فيرجينيا وولف، "تُعتبر كاملةً اذا اكتفت بتوصيف ستٍ أو سبع ذواتٍ (شخصيات) عائدةٍ إلى صاحب السيرة، في حين أن شخصًا ما قد يبلغ عددُ ذواته الألف." جوليان بارنز يستخدم شبكةَ صيادِ السمك صورةً تقريبية لتوضيح الفكرة: "شبكةُ الصيد تمتلىء، كاتبُ السيرة يسحبُها، يرتب الأصناف، يرمي ما لا حاجة به، يخزّن، يوضّب ثم يبيع. مع ذلك فلنفكّرْ في ما لم تَلتقِطْه شِباكُه: ما أكثرَ ما فاتَه صَيْدُه." يطيبُ لي التفكير أن هذين الكاتبين، كلاً من زاويته، قد حطّما كل وهمٍ بأن السيرة المكتوبة يمكن أن تكون صورةً سليمةً متكاملةَ البناء عن حياة صاحبها."٦٢
أما السيرةُ النبوية بالذات، مع الإدراك الكامل لأهميتها، وباعتبارها مُستقاةً من مجموع هذه السّير، فهي ليست المصدرَ الأول والأساس لهداية المسلم المؤمن وإلْهامه:
ا ل ر تلك آياتُ الكتاب المبين (1)
إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقِلون (2)
نحن نقصّ عليكَ أحسنَ القَصص بما أوحينا إليك
هذا القرآن وإن كنتَ من قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلين (3)
القرآن يوسف 12:3 ٦٣
القرآن هو رأسُ مصادر الهداية في الإسلام، ويَعتبره المسلمون كلمةَ الله، وبتعبير الخالدي في مقدِّمته لترجمة القرآن إلى الانكليزية، يعتبرونه "قمةً في البلاغة، قمةً في الحكمة، وذا مِنعةً حيالَ الخطأ والزيف".٦٤ وبحسب الخالدي، "في التراث الإسلامي ما قبلَ المُحدَث كان يُنظرُ إلى شرح القرآن وتفسيره ليس فقط على أنهما يقعان في أعلى مراتبِ المهابةِ والتقدير بين العلوم الدينية، وإنما أيضا باعتبارهما محفوفين بخطرٍ كبير نظراً لما يترتب على الخطأ فيهما من تداعياتٍ خطيرة." تفسير القرآن يتضمّن عدة فروع، منها "علوم التفسير الفرعية مثل أسباب النزول (السياق التاريخي)، الناسخ والمنسوخ (تناسق القوانين)، غريب القرآن (الغوامض اللغوية)، القراءات (تباين القراءات)، الإعراب (قواعد اللغة)، الاستعارات (التشابيه)، البدائع (البديع التعبيري)، والإعجاز (التفرّد الإلهيّ المُعْجِز)."
التباين في مقاربة تفسير القرآن وضعَ في المتناوَل "طيفاً واسعاً من وجهات النظر حول العدالة الإلهية التي لا رادَّ لها، وحرية الإرادة الانسانية، والصفات الإلهية، والمصير المحتوم للخَطَأة، فضلاً عن العديد من المسائل الثيولوجية والقانونية والتاريخية الراسخة في النص المقدس." من هنا يَبطل العجب في أن تباينَ القراءات للعديد من سِيَرِ النبيّ، والقرآن، يؤدي أيضا إلى الخروج باستنتاجاتٍ شديدة التباين حول جوهر المسائل السياسية، مثل أهداف وسلوك الجهاد والشريعة. كيف، يا ترى، يمكننا تقييم صحة هذا التفسير مقابلَ تفسيرٍ آخر؟ هل يمكن الحسم في تثبيت مسألة ثيولوجية بعينها واستبعاد سواها نهائيًا؟ هل هناك تفسيرٌ صحيحٌ واحد؟ لن أخوضَ في هذه التساؤلات، خصوصا إن من شأن ذلك أن يبتعد بنا عن موضوع السردية ويدخلنا في ما يتجاوز إطار هذه الدراسة. لكن لِمَ لا نحاول مرةً أخيرة سَبْرَ مسألةٍ يبدو أن كل مسألةٍ سواها تندرج فيما نستخلصه منها، إنها الخطُّ الفاصلُ ما بين التفسير والحقيقة المطلقة.
في العدد الثاني من دابق٦٥ً، يطرح تنظيم الدولة الإسلامية رأيا حول "المنهج (ميثودولوجيا) المنحرف في إعطاء الناس الخِيار بين الحقيقة المطلقة والباطل الكلّي،" ويتابع النصّ:
"إنّ علينا جميعاً العمل معاً على استئصال مبدأ ‘الخيار الحرّ’" والكفّ قطعاً عن خداع الناس من خلال الدعوة إلى هذا الخيار مباشرةً أو بطرقٍ غير مباشِرة...الأحرى، أن علينا مواجهتَهم بحقيقة كونهم أداروا ظهرهم للدين، بينما نحن متمسكون بأهدابه، مدركون نقاءَه، ووضوحَه، وشموليتَه، دون أية شوائب عائدة إلى الشرك، وسوء الهداية، والهرطقة، وإننا على كامل الاستعداد للوقوف بوجه أيٍّ كان يحاول حَرْفنَا عن الالتزام بأن نجعل دين الله منتصراً على كل الأديان الأخرى، وسنستمر في قتال كل ذوي الانحراف وسوء الهداية إلى أن نموت ونحن نحاول أن نجعل الدين ينتصر."
إذًا يبدو أن الدولة الإسلامية تؤمن بأنها وصلت إلى إدراك الحقيقة المطلقة. فلنتذكّر نصيحتَهم للذين يَهمّون بالهجرة، والتعريفَ الذي يعتمدونه لماهية الكبر: الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقَّ وَغَمْطُ النَّاسِ" فبطر الحقِّ جَحْدُه ودَفعُه بعد معرفته،وغَمْطُ الناس النظرُ إليهم بعين الازدراء والاحتقار والاستصغار ولا بأس بهذا إذا كان لله وعلامته أن يكون لنفسه أشد ازدراء واستصغارا منه لهم.٦٦ حين تتحدث "الدولة الإسلامية" عن الحقيقة المطلقة، هل تشير بذلك إلى المعتقد، الذي لا خلافَ حولَه في الإسلام، بأنها موجودة في القرآن، أم أن جماعة "الدولة الإسلامية" يرفعون تفسيرهم البشريّ لحديث النبيّ وللنص القرآنيّ إلى مصاف الحقيقة المطلقة؟ بين هذين الاحتمالين نقعُ على الهامش الأشدّ خطورةً، ويُصبحُ السؤال: هل من كبر أشدُّ وأدهى من افتراض المرء أنه يمتلك الحقيقة الإلهية بتمامها؟
خُلاصات استنتاجية
استتناجاتي هذه أقلُّ استنتاجيةً مما يوحيه التعبير، وهي حالةٌ أودّ أن أعزوَها إلى صعوبة الوصول إلى نصٍ بيانيّ حاسمِ الدّقة حول ما هو، في نهاية المطاف، مسارٌ سرديّ لا نهاية له، دفقٌ جارف من الوعي الجماعيّ، عَصيٌّ علينا التقاطُ كلّيته. وكما أشرت في المقدمة فإن المنهجية التي اعتمدتها هي أن أتفحص عدداً محدوداً، وإن متنوعاً، من النصوص. لكننا مع ذلك أمام بضعة موضوعاتٍ أساسية:
1- حولَ السردية باعتبارها نفيرَ حرب
تعمد البروباغندا إلى تحريف الواقع بحيث يخدم أهداف أصحابها، وحين تكون الحرب هي الهدف تتحول رواية الأخبار إلى فنِّ توسيع نفير الحرب ليصبحَ سرديةً سائرة. هذا ما نراه واضحاً في الوسائل الإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية، التي تمتاز عن سواها بطابَعها الواضح والمباشِر. كذلك فإن الصرخة التعبوية هي من موضوعات صحيفة "الأخبار"، بصيغة ضمنية أحيانًا، وواضحةٍ ومباشِرة في أحيان أخرى، وبصورة خاصة في مقال حتّر حول الحلول "الجذرية". أما تنوع الطبقات وتعددها في سردية الحرب فتطالعنا ذروتهما في وسائل الإعلام الغربية. هنا أيضا نسمع دعواتٍ واضحة إلى الحرب من مثل دعوة روجر كوهين في نيويورك تايمز إلى "هَزم القتَلَة البرابرة، جماعةِ الدولة الاسلامية"، ولكنّ الكثرةَ الكاثرة من الخطاب الحربي تمرّ بصورة ضمنية.
أولا، تجاوز وقائع التاريخ ومعانيه، أو تشويهُها، يحمي صورة القوى الغربية ويُضفي عليها هالةَ الصلاح، كما يحجب بالأقنعة المصالح والنزعات الإمبراطورية بحيث تبدو عائدةً إلى الناس، بل حتى إلى الحضارة والإنسانية. هكذا إذًا يُصار إلى إعداد المسرح حيث البطولةُ للغرب، ولا يبقى أمامَنا سوى سؤالٍ واحد، مَن هم الأشرار، وصولا إلى تحديد مَن يترتّب على الغرب أن يَقصفَه أو يَعزلَه أو يُصادقَه. هنا تأخذ السردية بالتنزّه بحرّية محاولةً إتحافَنا بتعريفاتٍ متنوعة لضروب الشر، أما خيرُ البطل وصلاحُه فيبقيان مُنزَّهَينْ لا يمسّهما سوء. حروب يشنها البطل هي حتمًا ذاتُ دوافع خَيّرة نبيلة، لأن البطل نفسه خيِّر ونبيل. المعاني (وليس بالضرورة الأحداث) التي تهدد هذا الجوهر الأساس في السردية، إما أن تُمسحَ منها أو أن تُحرَّف. حقيقة الأمر ان الواقع مُثقَلٌ بهذا النوع من المعاني بحيث بات تشويه التاريخ على نطاقٍ واسعٍ ومنظم واحدة من سمات تعريف سرديات الأخبار الغربية.
كذلك نرى تركيزًا على وحشية من يُعتبر العدو الأول في مرحلةٍ زمنية معينة.٦٧ وإذا ألقينا نظرة متفحصة إلى ما مورس من وحشية في العراق وسوريا، سيتبيّن لنا على الأرجح أن ما ارتكبته الدولة الإسلامية من عنف لا هو الأوسع في نطاقه ولا كان، دائمًا، الأكثر وحشيةً. لكن هاجس التركيز عليه يعني أن السؤال الذي طالما أُحسِنَ تَجنّبه حول الغاية من الحرب، هذا السؤال يصبح أبعد ما يكون عن أفكارنا، حتى أنه مع الوقت يصبح مجرد طرحه أمرا مسيئا. إنه إنجاز جدير بالتوقف عنده أن يكون الغرب قادراً على الذهاب إلى الحرب مجددًا حتى بأقل مساءلة إعلامية منه في العام 2003. الدم من الأدوات شديدةِ الفعالية في سرديات الحروب، ودماء الجنود الأميركيين الذين ماتوا في خدمة الدوافع الإمبريالية تعاد إثارتُها بعد مرور عقدٍ من الزمن، وذلك بهدف الترويج للدوافع ذاتها. أما دماءُ العراقيين الذين قُتلوا على أيدي عراقيينَ آخرين فتُستخدم لتأجيج السردية الطائفية وحقيقتها اللتين حركتهما عمليةُ غزو العراق، ولترويج المصلحة الإمبريالية تحت غطاء حماية السنّة من الشيعة.
2- حولَ الموضوعية
"كلّ ما نسمعُه هو رأيٌ وليس واقعاً. كلّ ما نراه هو المنظور وليس الحقيقة."
ماركوس أوريليوس
استخدام لغة الحياد وعدم الانحياز يشكّل موضعَ فخر لدى العديد من المؤسسات الإعلامية الغربية، والصحافيون في كل أنحاء العالم ينظرون بمهابةٍ واحترام إلى هذا المثال الغربي، والقيمة المسماة "الموضوعية" يُنظر إليها باعتبارها واحدةً من علامات التميّز المِهْني. لكن لغةُ الحياد هي الأداة الأشدُّ خداعاً في ترسانة سردية الأخبار الغربية. هي لغة تُفرز انطباعاتٍ عن أخبارٍ خارجَ الأطر الأخلاقية، أخبارٍ لا منظورَ خاصًا لها، أخبارٍ بريئة من الدوافع الخفية، وربما حتى من الخطأ البشري. كما رأينا، هذه الانطباعات مَحضُ أوهام، فمن الممكن جدا أن تصاغ سرديةٌ بلغةٍ إخبارية غربية ميكانيكية مألوفة، ومع ذلك تأتي متوافقةً تماما مع متطلبات بروباغندا الحرب وتبعث إلى المتلقي منحى القيم الخلُقية الإمبراطورية، في حين توحي ضمنًا بمنظورٍ لا غرض له.
تتميز الأخبار الغربية أيضا بمستوى عالٍ نسبيا من الدقة حيال الحقائق، ففي غالب الأحيان عندما تقع أخطاء في نقل الحقائق، أو يُعتَبر أنها وقعت، يُصار إلى تصحيحها. هذه الميزة تمنح مؤسسات الإعلام الغربية عموماً، وعبرها مؤسسات الإعلام العالمية التي تلتزم القيمَ الأخبارية الغربية، الكثير من صدقيتها ونفوذها. هذا يعود جزئياً إلى التفكير السائد الذي يخلط بين الدقة حيال وقائع بعينها وبين الصدق حيال الحقيقة. وكما رأينا، إن التلاعب بالمعنى يمكن القيام به بقليلٍ من التلاعب بواقعة معينة، أو حتى من دونه.
3- حول البيانات الرسمية
"شبكة الصيد تمتلىء، كاتب السيرة يسحبها، يرتّب الأصناف، يرمي ما لا حاجة به، يخزّن، يوضّب ثم يبيع. مع ذلك فلنفكّر في ما لم تلتقطْه شِباكُه: ما أكثرَ ما فاتَه صيدُه."٦٨
جوليان بارنز
فلنطبّق صورةَ جوليان بارنز عن السيرة على السردية الإخبارية. شبكةُ الصيد لا تبارحُ المكان الذي تُنسج فيه البيانات الرسمية، فهي تتصيّد من ماكنات العلاقات العامة المواد التي تحوّلها إلى "أخبار". ضمن هذا الانحياز إلى الفضاء الرسمي هناك أولويات، ففي الأخبار الغربية، على سبيل المثال، تبقى المنابرُ المفتوحة والتي تجنّب ضيوفها النقد محجوزةً في الغالب للرسميين الغربيين من مثل الجنرال لويد أوستن. بقدر ما تُقدَّم البيانات والتصاريح الرسمية خاليةً من أي جهد تفسيريّ، تتولّى الآلة الإخبارية ببساطة النفخ بالبروباغندا الرسمية. هذه البيانات تملأ مساحةً كبيرة من المشهد الإخباري اليوميّ، لكن تأثيرها الأطول زمنًا واستمراريةً يأتي من قابليتها لتشكل إطارًا للأخبار. في نهاية المطاف سوف تترك الآلةُ الإخبارية الغربية البيانات الرسمية وتبحث عن مادةٍ للقصة في أمكنة أخرى، لكن حتى حين يلقي الصياد شباكه، بشيء من الخجل، في مياهٍ أخرى يكون قد عرف عما يبحث وأين. من المؤسف أن الوقت والمجال لا يتيحان لنا النظرَ في ما لم تلتقطه الشباك، لكن فلنعتبر أننا حين نرى كل الصيادين يتجمعون في مكان واحد طوال الوقت، عندئذ يراودنا شعور بأن هذا المكان بالذات هو المصدر الوحيد المحتمل للأخبار. وَهْمُ الحتمية يترسّخ ويجعلُ الأمور تبدو طبيعية.
4- حولَ مرونة السردية
تتميّز وسائلُ الإعلام الغربية بمستوى عالٍ من المرونة، وهي تطرح بين الحين والآخر تحدياتٍ حقيقيةً للسرديات الحكومية الرسمية. Pregent و Weiss، في مقالهما في الفورن بوليسي، على سبيل المثال، نفّسا سردية الإدارة الاميركية الحالية وتحدّيا الإطار الذي التزمت به، بشكل صارم، بعض وسائل الإعلام الغربية الأخرى. أما روجر كوهين في نيويورك تايمز فقد أطلق سهامه على مقال زميليه في فورن بوليسي ودافع عن سياسة أوباما. لكن هذه النقاشات تأتي ضمن سياق الانقسام في تركيبة نظام الحكم حول التعامل مع ايران، وليست خارجة عن نطاق السلطة بل الأحرى أنها تعكس المداولات الداخلية للسلطة نفسها وسط شدِّ الحبال بين نبضين إمبراطوريين: مقاربة مدروسة مقابل السعي نحو الإمبراطورية المتفلتة.٦٩
5- حول السردية المجمَّدة
كأن الإسطوانة انكسرت، ومعها انحبست السردية وتجمدت في إطارٍ معين. أهو تنسيقٌ بين الأميركيين والإيرانيين، أم هو تنافس؟ السؤال بحد ذاته مضلِّل. كأنه يوحي بأن الجواب يجب أن يكون إما هذا أو ذاك. غالباً ما تَعلق القصةُ ضمن إطار يفرضه الذين في السلطة انطلاقا من رغبةٍ في حصر ظاهرة معقدة ضمن تفسير بسيط واحد. في هذه الحالة تبدو حاجة الإيرانيين والأميركيين واحدة: إنكار التنسيق فيما بينهم والتظاهر باحتدام المنافسة. هذا الفخّ السرديّ، بالإضافة إلى خدمة مراميهم، يقزّم الحقيقة إلى مجرد تعارضات ثنائية بينية، ويذهبُ بكل التباينات الدقيقة والتعقيدات.
6- حول الوثبة السردية
هي الترياق حيال السردية المجمّدة، ومقال عامر محسن "العرب وإيران: العودة إلى الثمانينات" مثال جيد. بجعله حقيقةَ التحول وطبيعتَه واقعاً مرئياً، يجمع المقال ما بين الخصومة والتحالف في نصٍ تحليليّ واحد، الأولى باعتبارها حقيقةً ماضية (وربما حاضرة)، والثاني باعتباره إمكانيةً للمستقبل (وربما الحاضر). حتى أن القصة لا تأتي على ذكر معركة تكريت ولكنها، بطريقةٍ ما، تثري معرفتنا حيالَها من خلال تفسيرٍ يستوعبُ المعنيين كليهما. هذا لا يعني أننا وقعنا على حل الإشكال حولهما، لكن المقال عمدَ ببساطة إلى إثارتهما بطريقةٍ تثبّت إمكانية الجمع بينهما ولكن بصيغ مختلفة. مع استخراج المعنى الجديد المعقد، تتضاءل حتى الاختفاء تفاصيل تكريت الدقيقة وتنسابُ القصة في سبيلها بانتظار مزيد من التوضيح في المستقبل.
7- حول السردية الإخبارية لدى محور المقاومة
تقدم هذه السردية مثالاً على أزمة هوية تاريخية في خضمّ ما قد يصبحُ تحولاً تاريخياً. ليس الماضي بالنسبة إليهم هو لبُّ المشكلة، وإنما الحاضرُ هو الذي يَشهر التحدي بوجه هُويتهم، ذلك أن كل ما ادّعَوْا أنهم يعملون لأجله انقلبَ رأسًا على عقب. الفكرة التي تحدّد هُويتهم كانت مقاومة الأميركيين باسم المستضعفين، وها همُ الآن رأسُ الحربة ضدّ المستضعفين (في سوريا على الأغلب)، ويخوضون حرباً إلى جانب الأميركيين (على الأغلب في العراق). هذا يؤدي إلى دعوة مرتبكة إلى الحرب. من جهة، بما أن أعداءَهم الجدد من السنّة فهم يحتاجون صرخةً مذهبية لتعبئة مقاتليهم وشيطنة العدو. ومن جهة ثانية يودون الحفاظ على خطاب (ومظهر) الوحدة الإسلامية اللذين توسلوهما طوال عقود.
النتيجة تأتي متنوعةً بتنوّع وسائلهم الإعلامية، وإن كانت كلها تضجّ بخطاب "الحرب على الإرهاب"، الأداة الأشد فاعليةً والأعم في التجريد من الصفة الإنسانية في هذا الزمن، والتي تُستخدم ضد كل مَن يقاوم، وأحيانًا ضد المجتمع الأوسع الذي يدعم المقاومة أيضاً.٧٠
8- حولَ السردية الساعية في تحقيق ذاتها
"ويا أهل السنة في العراق والشام والجزيرة واليمن، قد طالما حذّرناكم من الروافض الأنجاس، وقد حدث ما حذّرناكم منه ولا زلنا نحذّركم. ولئن كانوا بالأمس يكذبون عليكم ويبدون لكم ملمس الأفعى الناعم فها هم اليوم قد كشّروا عن أنيابهم، ونفثوا سمّهم…"
الشيخ أبو محمد العدناني، المتحدث باسم الدولة الإسلامية٧١
إنه يجعل العداوةَ المذهبية المتفشية اليوم تبدو جوهراً ثابتاً لا يتغيّر، وقد أدركته الدولة الإسلامية من قبل أن يتضح لسواها. وهو يقفز فوق إسهامات الدولة الإسلامية (وأسلافها)، أعمالاً وأقوالاً طوال العقد الماضي، في التسبّب بهذه العداوة. إنه الفارقُ بين عمق الإدراك لما هو كائن واستشراف ما سوف يكون من جهة، والسردية الساعية في تحقيق ذاتها من جهة ثانية. ليس المقصود هنا أن حالَ الاضطراب المذهبي لم يكن وراءها من المسببات سوى الهجمات المتتالية على مناطق المدنيين الشيعة التي بدأت بُعيد الاحتلال الأميركي للعراق. من الواضح أن هناك مسبباتٍ أخرى أيضا. لكنّ عنفاً بهذه الاستمرارية ما من شك في أن له تأثيراً في أيّ وضعٍ كان، خصوصاً متى ترافق مع خطابٍ حاقدٍ ومسموم.
إذا نحّينا العراق والشيعة جانبا، يبقى أن للدولة الاسلامية شأناً ما مع المطلقات يقود جماعتَها إلى الخروج باستنتاجات خطيرة. هل لا يزال بإمكان مواطني الدولة الإسلامية فتحُ القرآن بحثًا عن الحقيقة المطلقة ما دامت هذه الدولة قد أنجزت امتلاك حقيقة الدين كاملةً غير منقوصة، "مدركةً "نقاءَه، ووضوحَه، وشموليّته"؟ علامَ إذا نسعى حتى إلى قراءة القرآن ما دامت الحقيقة التي يتضمنها قد تمّ إدراكُها واستيعابُها كاملةً من قبل البشر الذين بات بإمكانهم الحلولُ محلّ النص الالهيّ باعتبارهم مصدراً قمةً للهداية؟ من هنا تطالعنا في قصصهم العلاقةُ بين السلطة والسردية في أجلى مظاهرها، فإذا قُيّضَ للدولة الإسلامية أن تنتصر، وحيثما كان لها ذلك، تكون كل تلك الجهود الفقهية لاستنباط المعاني والعِبَر من السنَّة النبوية والرسالة الإلهية قد بلغت منتهاها، فيما جماعة الدولة الإسلامية يرسمون بخطابهم طريقهم - والسيف يلوح بأيديهم - إلى نهاية القصة.
9- حول السردية من خارج السلطة والإعلام المهيمن
"البحيرة المرة"، مثالاً. كثيرةٌ هي النقاط التي يمكن الاعتراض عليها في الفيلم الوثائقي، لكن النقطة الأساس هنا هي أن القصة تُروى من منظار غربيّ مستقل عن السلطة يتيح لنا، أخيراً، أن نراقب السلطة، تاريخها، تأثيرها، الآثار التي تتركها ممارساتُها، فضلا عن تصرفها الحالي، ولكن كل هذا من الخارج. من حيث التصميمُ والإخراج، يشكّل هذا الوثائقيّ فتحاً إنتاجياً من نواحٍ عديدة لا يسعني استعراضُها في المدى المتاح (وكنتُ أتمنى وأودّ ذلك). أما من ناحية التعليق السياسي فإن أحد الأسباب العديدة التي تجعل منه نفحةً جذريةً منعشة هو أن الدفق المعتاد السائد من الأخبار تغيب عنه كليا أو تكاد الأساسيات الجوهرية في قصتنا هذه وفي سواها.
هل لنا أن نفهم الحرب دون أن نتكلم عن صناعة السلاح؟ هل لنا أن ندرك الديناميات السياسية والمالية في الغرب بمعزلٍ عن الحروب؟ هل يمكننا حتى أن نبدأ مقاربةَ قصةٍ تتعلق بالدولة الإسلامية (أو القاعدة، أو ربما حتى أزمة الانهيارات المالية) دون التطرق، ولو لماماً، إلى شيء من السياق الوارد في "البحيرة المرة"؟ ما من شك في أن الخوض في هذه الديناميات يقدم لنا ما يُشبه الترياق الفعّال لصدّ سموم التغطية المهيمنة والخاضعة لأولياء النعمة.
أما نسبة الفعالية فتبقى وقفاً على مدى وصول الرسالة ووطأتها. ال BBC تبثّ قِصصها الإخبارية مرسَلَةً إلى رؤوس ملايين المتلقّين وأذهانهم/ ساعةً بساعة يوماً بيوم، فيما تُقيم "البحيرة المرة" بين الإعلام المهيمن من جهة، وبديله من جهةٍ ثانية. فيلمٌ وحيدٌ في نوعه محمولٌ على BBC iPlayer مقابل ذلك الدفق الجارف من التغطية الإخبارية التي لا تكفّ. أيُّهما، في هذه الحالة، أقدرُ على التسرُّب وبلوغ عمق الوعي لدى العامة بحيث يترك دمغةً أكثرَ وقعاً على السرديات المتدفقة، وعبرَها على الأذهان والمعتقدات والسلوك؟
سردية المقاومة تتلقى دعم القدرات الجماعية لوسائلها الإعلامية، أما الآراء البديلة والمخالفة فيصارُ إلى استبعادها من فضاء الإعلام السائد في البيئة الشيعية. من جهة أخرى تتلقى سردية الدولة الاسلامية دعمها غير المباشر من خلال ما بثته الإيديولوجيا الوهابية طوال عقود في العربية السعودية وشبه الجزيرة، وانطلاقًا منها إلى مواقع الحروب الأميركية على أجنحة البترودولار وتلك الدائرة من المال والسلطة.
كلما اتّسع بوقُ المايكروفون وأعيد البثّ مراراً وتكراراً، اشتدت معه وطأة التأثير في أذهان العامة ومعتقداتهم وسلوكهم. هي ذي العدسةُ التي من خلالها يجب أن ننظر كي يتضح لنا مدى تأثير السلطة (على أنواعها) في سرديات الإعلام، ومدى تأثير هذه السرديات في الواقع السياسي والاجتماعي، في سوريا والعراق وسواهما.
مُلْحَق: تعليق موجز حول المعتقدات والنوايا
"هناك شيء كان... دايفد هيوم قد أشار اليه لقرنين مَضيا. في مؤلَّفه حول النظرية السياسية، يصف إشكاليةَ التناقض حين يخضعُ الشعب، في أيّ مجتمع، لحكّامه مع أن القوةَ الحقيقية هي دوماً في أيدي المحكومين. في نهاية المطاف، لا يستطيع الحكام، أن يحكموا ما لم يهيمنوا على الرأي العام…"
نعوم تشومسكي، كيف يعمل العالم٧٢
"التفكير لا يمكن أن يُدْرَكَ بالكامل إذا نحن تجاهلنا العواطف والدوافع."
جوزف لودو، عالم أعصاب٧٣
"عاملُ التفسير (أو التأويل) في النصف الأيسر من الدماغ ليس سيّدَ تكوين المعتقَد فحسب، ولكنه، فضلاً عن ذلك، يتمسّك بنظام معتقداته مهما يكن."
مايكل غاتزانيغا، عالم أعصاب٧٤
ما الذي يجبر آلاف الصحافيين والعاملين في الإعلام، على مدى خط التجميع بكامله في الماكنة الإخبارية، على إنتاج البروباغندا؟ والأكثر فضولاً وغموضاً، كيف يحدث ذلك في بيئاتٍ وأجواء يتضاءِل فيها عاملُ الضغط المكشوف والمعلن إلى حده الأدنى؟ لعلّ أحد الأجوبة هو أن في أية بيئة هناك طرقٌ ناعمة غير مباشِرة (وأحيانا فجة) لتمرير الضغط وإيصاله، وبالتالي للتأثير سلباً في الوضع المهني للاشخاص المعنيين. نسلّم بصحة ذلك إلى حد ما، لكنّ الظاهرة التي نشهدها أكثر تعقيداً، فنحن هنا نتحدث عن أنماطٍ راسخة لفهم العالم وتفسيره، وعن مفاهيمَ للخير والشر عمّرت وتقادمت. مهما قيل عن مدى التزام الصحافيين في غالب الأحيان الخط المطلوب، ونسبة هذا الالتزام، لن يكون في ذلك مبالغة. في كتابه “Covering Islam” الصادر في العام 1981 بَيّنَ إدورد سعيد كيف تجاهلت التغطيةُ الإخبارية الاميركية لأزمةِ الرهائن التاريخَ المتصل بهذا الحدث، وتعقيدات الثورة الإسلامية في إيران، وكيف حَوّلت مسارا ذا أبعاد تاريخية مذهلة، متسارعة الحركة، إلى مجرد أقصوصةٍ أسطورية ذاتِ بُعدٍ أخلاقي أحاديّ. ٧٥
في كتابهما “Manufacturing Consent” يقدم لنا نعوم تشومسكي وإدورد هيرمن مخطّطًا شاملا للبروباغندا النموذجية، ويظهرانها وهي تؤدي عملها، فيما هي تلجأ أحيانا الى قلب الحقائق رأساً على عقب. حين أطلقت أميركا موجةَ حَمْلاتٍ دموية تهدف إلى تدمير الارادة الشعبية في أميركا اللاتينية وآسيا في عز مرحلة الحرب الباردة، وهي الحملاتُ التي انتهت إلى معاناة وآلام لا توصف، بما في ذلك الإبادة الجماعية، جرى تظهيرُها آنذاك بنجاحٍ على أنها البطلُ الذي يواجه أشرارَ الشيوعية ويدعم قضايا الحرية والديمقراطية.٧٦
يصعب على المرء أن يفهم سبب استمرار سطوة هذا النهج، حتى بعد أن بات احتكارُ نقل الخبر وسرد الأحداث يواجَه بهذه الدرجة من تحدي التكنولوجيا له. ليست المقولةُ التي تَعتبر كل ذلك نظاماً مركزيَّ التصميم والإدارة للهيمنة على الفكر، وأن جيوشاً من العاملين في مجال الإعلام يتلقّون التعليمات للتصرف بهذه الطريقة، وأنهم جميعاً يبحثون، بوعي وتصميم، عن طُرقٍ يُحرّفون بها الحقائق، سوى تبسيطٍ للمسألة. لكن استبعاد هذه المقولة شيء، والخروج بتفسير واضح لما تتركه السلطة، على أنواعها، من أنماطٍ واضحة كالشمس على سرديات الإعلام، شيءٌ آخر، خصوصاً قبل الحروب وخلالها، أي حين تكون السيطرة على الرأي العام بالغة الأهمية بالنسبة إلى مخططي تلك الحروب ومشعليها. إن ظاهرة التزام هذا العدد الكبير من أهل الاعلام في الخط المطلوب، وغالباً حتى دون أن يدركوا أنهم في سياق خطٍ بعينه، لهو أمر مخيف ومحيّر بحد ذاته.
من هنا يصبحُ السؤال المحيّر حول المعتقدات والنوايا سؤالاً ملحاً. كيف تأخذ معتقداتنا موقعها منا، وتترسخ؟ كيف لنا أن نتفحص المعتقدات في المجتمع الإنساني الأرحب، في حين نكاد لا نستطيع التكلم بثقة عن معتقداتنا نحن كأفراد؟ هذه المسائل بدأت تخضع للدراسة لدى علماء الأعصاب٧٧، لكن قبل ولوج هذه النقطة فلنوجز بعض ما تمّ الادلاء به حول الآراء والمشاعر السائدة، أكان في أوساط الصحافيين أو في المجتمع الأوسع. يقول آدم كورتس، الذي قدّم لنا "البحيرة المرة" (Bitter Lake) وغيره من الوثائقيات القوية٧٨، إن هناك "نظرة إلى العالم" سائدة عبر الطيف السياسي في الغرب، وهي نظرة أعادت تعريف الصراعات السياسية باعتبارها "معاركَ ضد قوى الظلام الشيطانية" التي تهدد الأبرياء، ودور الغرب باعتباره تدخلا لإنقاذ الأبرياء من هذا التهديد.٧٩
إدورد سعيد يقول إنّ المراسلين الصحافيين، ككل البشر، يستدخلون في ذاتهم قيماً معينة يشعرون أنها بغير حاجةٍ إلى أيّ تمحيص. ينبثق من ذلك "إجماعٌ" يأخذ بالتأثير في وسائل الإعلام بطرقٍ مراوغة وغير مباشِرة جاعلاً مقولاتٍ بعينها، مثل "أن تُستخدم قوة أميركا العسكرية لأهداف شريرة... أمراً شبه مستحيل ضمنَ هذا الإجماع،" ومقولاتٍ أخرى، مثل فكرة "أن أميركا هي قوةُ خيرٍ في العالم... مسألةً روتينيةً وطبيعية."٨٠ أما تشومسكي وهيرمن فيقولان إن تشغيل مصافي متعددة للبروباغندا يعني أن "العاملين في وسائل الإعلام الإخبارية، الذين، في أحيان كثيرة، يمارسون عملهم بأخلاقية كاملة وحسن نية، في إمكانهم أن يقنعوا أنفسَهم بأن اختيارهم للأخبار وتفسيرهم لها يتمان بـ ‘موضوعية’"...٨١ في هذه الأثناء، كان علمُ الأعصاب يكشف عن مدى اختراق القصة عمقَ أعماق دماغنا.
مايكل غاتزانيغا، عالِمُ الأعصاب المعرفيّ، يقول إن النصف الأيسر من دماغنا "يضمّ منطقةً خاصة تعمل على تفسير (أو تأويل) المعلومات التي نستلمها لحظة بلحظة وتنسجُ منها قصصاً تشكل بمجملها السرديةَ الجارية حولَ صورتنا الذاتية ومعتقداتنا."٨٢ يسمي تلك المنطقة المفسِّر (أو المؤوِّل) "لانها تبحث عن تفسيرات لأحداثٍ خارجية وداخلية وتضيف إلى الحقائق الواقعية التي نختبرها ما يجعل أحداثَ حياتنا ذات معنى، أو يؤولها."٨٣
"في كل مرة يواجه دماغُنا الأيسر معلومةً لا تتفق مع صورتنا الذاتية (صورة المرء عن نفسه)، أو معرفتنا، أو إطارنا الفكري، يتولّى المفسِّر في النصفِ الأيسر من دماغنا خلَق مُعْتَقَدٍ يجعل كل المعلومات الداخلة ذات معنى مفهوم ومتناغم مع فكرتنا المستمرة عن أنفسنا. المفسّر يبحث عن الأنماط، ونظام الترتيب، والعلاقات السببية."
أما الأكثر مدعاةً للقلق فكون هذا المفسِّر يبدو أن لديه عقلاً خاصًا به؛ ٨٤
"تكشف الاختبارات التي أجريت على المرضى من ذوي الدماغ المنفصم عن مدى جاهزية المفسِّر في النصف الأيسر من الدماغ لابتكار القصص والمعتقدات. ففي أحد هذه الاختبارات، مثلا، حين مُرِّرتْ كلمةُ إمشِ إلى الجهة اليمنى من دماغ المريض، وقفَ وأخذ يمشي. حين سُئل لماذا فعلَ ذلك سارع الدماغ الأيسر (حيث تخزَّن اللغة، والذي لم تُرسَل إليه كلمة إمشِ) إلى ابتكار سبب يبرر فعله: ‘أردتُ أن أذهبَ لآتي بزجاجة كوكا كولا’.
والآن فلنتخيّل بعض الإمكانيات: ديفد بترايوس، متحسّرًا على ما ألمّ بالعراق من مآسٍ، يؤكد لنا أن "التقدم الشاق، المضني، نتيجة رفع عديدنا العسكريّ، استغرق أكثر من ثلاث سنوات،" غير أن طائفية المالكي، ومسارعة أوباما إلى الخروج من العراق نسفتا كل هذا الانجاز.٨٥ المفسِّر في الدماغ الأيسر للجنرال، كان عليه شرح المرحلة التي تم فيها رفع عديد القوات الأميركية بقيادته وإشرافه - وهي المرحلة الأكثر بروزا في مسيرته المهنية والمحطة التي ستُذكِّر الناسَ به. ربما كان يمكن المفسِّر أن يخبره أنه لا يعدو كونه جنرالاً آخر تولّى في مرحلةٍ بعينها قيادة الغزو الإمبريالي المدمِّر للعراق. لكن المفسّر طلعَ بفكرةٍ أجمل، فلا نَنْسَ، الجنرال قائدٌ نبيل وذو كفاءاتٍ عسكرية، وهو العقل الخلاق وراء رفع عديد القوات والستراتيجيات المتصلة به، فضلا عن كونه حبيب السنّة. جعلَهم يقاتلون القاعدة، وينخرطون في تركيبة الدولة. لكن كل جهوده هذه ذهبَتْ هباءً منثوراً على يدي أوباما، الذي انسحب من العراق وترك الساحة للمالكي الشرّير وأحابيله الخاصة.
خلافًا للمثل أعلاه عن المريض، منفصم الدماغ، الذي ظن أنه وقفَ لأنه أراد الإتيان بزجاجة كوكا كولا، جاء تفسير الجنرال بترايوس ذا تداعياتٍ وأبعادٍ تتجاوز حياته الشخصية بكثير. إن تفسيره لأحداث العراق يجعل من الممكن تقديم الفرصة الضائعة لاحتلالٍ غير محدود بزمن على أنها الحلُّ الذي فشِل أوباما في محاولة تطبيقه، وربما أيضا الحلُّ الذي لا يزال مطلوبًا تطبيقُه. طبعًا هذا لا يعني استبعاد إمكانات أكثر إثارةً للريبة، فما من شك في أن أهلَ السلطة يدركون تماما الأذى الذي يتسبّبون به ومع ذلك يمضون قُدماً، وهم يدركون المصالح وراء أعمالهم ولا يترددون في السعي وراءَها، ثم يكذبون. لكن يبقى السؤال، ألا يعقلنون الأمور ككل واحد منا؟ ألا ينسجون من أحداث حياتهم قصصا ككل واحد منا؟
من الخطأ التفكير في أن تقنيات العقلنة اللاواعية، والسعي المريب إلى السلطة، هما أمران لا يستقيمان معاً، تماماً كما إنه من الخطأ التفكير في أن قصة بترايوس بكليتها هي بالضرورة وهمية أو ملفقة. استفادة الاحتلال من رفع عديد القوات، على سبيل المثال، من الممكن جداً أنها كانت حقيقية، والجنرال يسمّيها "تقدمًا" وهو تعبير يحمل مدلولاتٍ ايجابية، لكن يبقى من دون معنى محدد بدقة ما لم يوضَّح: التقدم باتجاه ماذا؟ رفع العديد العسكري الأميركي أدّى، بقدر ما كان ناجحاً، إلى تقدمٍ نحو احتلال أشد فاعلية، ونحو ضم عناصر إلى النظام الجديد كانوا بالأصل يقاومون الاحتلال، وإعطائهم موقع الطليعة في فرض الاحتلال من خلال تقديم الرشوة والسلاح لهم. هذه العملية تمت على الأرجح بشكل مقصود ومحسوب.
لكن العبرة من قصة بترايوس تبقى أهمّ من معرفة أيّ الوقائع فيها دقيقة وأيّها ليست كذلك. العبرة تنبثق من الافتراض الأصلي الأول بأن ما هو جيد وفي صالح الاحتلال هو جيد وفي صالح العراق، الافتراض الذي - هو بالذات - تمتد جذوره عميقًا في الاعتقاد بأن ممارسة القوة الأميركية وتقدمها عاملان يحملان الخير إلى العالم. هذا هو لُبُّ السردية التي تربط ما بين مختلِف عناصر قصة بترايوس، وهي تبدو كأنها تُزاوج ما بين الصورة الذاتية للجنرال والصورة الذاتية لأميركا. المؤرخ الاميركي روبرت كاغان الذي يعلن أنه "ليبرالي مؤمن بنظرية التدخل"٨٦، يقدم لنا تحليلا مثيراً للاهتمام حول الصورة الذاتية الأميركية في كتابه "الأمة (الدولة) الخطيرة". يقول إن الأميركيين يرون أنفسهم "غير مغامرين في الخروج إلى العالم، الا بين الحين والآخر فقط...، وعادة كردة فعلٍ على هجوم خارجيّ أو ما يعتبرونه هم تهديداً". ويضيف أن هذه الصورة الذاتية "تبقى صامدة حتى بعد أربعمائة سنة من التمدد المتواصل والتورط الذي لا ينفكّ يزداد عمقًا في شؤون العالم، وعلى الرغم من الحروب التي لا تحصى، والتدخلات، والاحتلالات المتمادية في الزمن لأراضي الغير". ٨٧
كاغان يرى في المشهد دورةً متكررة تعزز ذاتها:
"كمعظم الشعوب الميالة إلى التوسّع – اليونانيون والرومان، مثالا – لم يَعتبر الأنغلو/أميركيون أنفسهم غُزاةً معتدين... فحفاظهم حتى على الحد الأدنى من الأمان كان دومًا يتطلّب حيّزًا من السيطرة والهيمنة يتسع لا يكفّ، ذلك أنه كلما ترسّخ خطٌ ما لحدودٍ آمنة تبيّن لهم أن تهديداتٍ أخرى عادت لتقومَ على تخوم هذا الخط من الجهة الأخرى. "الخطيئةُ الأصلية" في تهجير الهنود الأولّين من أرضهم هي التي أطلقت دورةَ التوسّع والغزو." ٨٨
فلنُلقِ نظرةَ مقارنةٍ بين الزمنين، ماضيًا وحاضرًا، فمن يَقرأْ مقالي فورن بوليسي اللذين اقتبسنا مقاطع منهما في الفصل الثاني، ومقابلة الواشنطن بوست مع بترايوس، يخرجْ بانطباعٍ واضح بأن كاتبي المقالين والجنرال يشعرون بأن بغداد حقٌ لهم، ربما تمامًا كما شعرَ "الأنغلو – أميركيون" أن من حقهم "الدفاع" عن كل حدود جديدة أقاموها، فتحاً وإخضاعاً، ومن حقهم الاندفاع منها قُدُماً لاحتلال المزيد.
وكما أن المستوطنين الأنغلو – أميركيين "استطاعوا بسهولة اعتبار الهنود"،٨٩ الذين كانوا يقاتلون دفاعاً عن وجودهم بالذات، معتدين، كذلك أيضا يَعتبر كاتبا مقال فورن بوليسي مَن سمياهم "نذير قوات الحشد الشعبي" قد استولوا على مدنٍ – هي أصلاً لهم – مستعيدينَها من الأميركيين الغزاة. في هذا الإطار يقدم لنا كاغان شرحاً متعدد الأبعاد لما وراء هذا التوسّع العدواني من دوافع تشملُ، فيما تشمل، إضافةً إلى المحفِّزات التجارية والتوسّع الإقليمي والدفاع عن هذا التوسع، "الاقتناع بأنهم كانوا يخدمون هدفاً أكثر سمواً، وأن توسعهم ما هو إلا انزياحُ الغطاء عن القدر الأنغلو-ساكسوني".٩٠
"حضارتُهم، في اعتقادهم، تعود بالفائدة على الذين ينشرونها، كما على الذين يفرض نشرها بين ظهرانِيْهم."٩١
الذين على المنقلب الآخر المتلقي من المد الإمبريالي هم أيضاً ينسجون قصصَهم على منوالهم. فلنتذكّر تأكيد أحد الناطقين باسم الحشد أن "من المستحيل لأي فصيلٍ من فصائل المقاومة أن يكون في خندقٍ واحد مع الأميركيين،" ثم، السؤال الذي أوردته "الأخبار" "ما هي مصلحتُهم إذًا، في كل هذا الكذب والتظاهر؟ أن يخدعوك؟"٩٢ أيكون المفسِّر إياه، في دماغهم الأيسر، هو الذي يخدعهم هم حفاظاً على هُويةٍ غالية تشكّلت في ميدان المعركة عندما قاوموا الغزاة، هُوية لم يسبق أن تعرَّضت للتساؤل والشك كما تتعرض الآن وهم يحاربون تحت غطاء جوي أميركي.
المقاتلون أيضا لديهم مصالح ومحفّزات تتعلق بالمال والسلطة والمنافع الشخصية، لكن بالنسبة إلى هؤلاء يبقى تفسير الحرب وإضفاء معنى معين عليها أكثر إلحاحاً لأنها تضع حياتَهم هم في الميزان، فضلاً عن كونها مسألةً شخصية من نواحٍ متعددة، أكثر منها بالنسبة إلى بترايوس. أحياناً تبدو الهوية، بالنسبة إلى الذين فقدوا كل شيء في حياتهم، هي كل ما تبقّى لهم. والهوية هي أيضاً شأن متعلق بالأعصاب. ففي بداية كتابه "الذات المتشابكة" (Synaptic Self): كيف تتحول أدمغتنا إلى من نحن عليه"، يقول جوزف لودو Joseph Ledoux:
"خلاصة هذا الكتاب هي: ‘ما أنتَ سوى تشابكاتِك العصبية’. والتشابكات العصبية هي المسافات ما بين خلايا الدماغ، ولكنها أكثر من ذلك بكثير. إنها أقنية الاتصال ما بين خلايا الدماغ، وهي الوسائل التي بواسطتها يتم إنجاز معظم ما يقوم به الدماغ."٩٣
يتبع ذلك استكشافٌ مذهلٌ لكيفية انبثاق الذات المتماسكة الكلية من التفاعلات العصبية التي تحدث داخلَ رؤوسنا. لكن كيف يؤثر كل ذلك في العالم الاجتماعي الذي نسكنه؟ يقول غاتزانغا إن الظواهر في رؤوسنا تحدث على أكثر من مستوى، فهناك أولاً الدماغ الطبيعي المادي، عالمُ الخلايا العصبية، الإشارات الكهربائية، التشابكاتُ العصبية، والناقلات الكيميائية للنبض العصبي. ثم لدينا الخصائصُ العقلية "غير القابلة للتقسيم" التي تنتج من ذلك، و"لا يمكن وصفُها من خلال التبادل الخلوي"، وهي الخصائص التي "تُسمى أحيانًا العقل المنبثق." ٩٤ ثم يأتي المستوى الثالث، وهو الأهم بالنسبة إلينا:
"يصبحُ الشخص مدركًا وجودَ نظامٍ يعلو طبقات العقل/الدماغ الشخصي، وهو يشكل بذاته طبقة أخرى... هي العالم الاجتماعي. هذه الطبقة تتفاعل بقوة مع النشاط العقلي في دماغنا والعكس صحيح. نحن البشر، في سياق بنائنا لقوتنا الذاتية، عمدنا – بطرق متعددة – إلى تحميل النظام الاجتماعي من حولنا العديد من حاجاتنا الأساسية المهمة بحيث يمكن لما نبتكره نحن من أشياء أن يبقى بعد زوال حياتنا الهشة وسريعة العطب".٩٥
هذا الانتقال إلى العالم الاجتماعي (أو الطبقة الاجتماعية) يشكل عاملا مهماً في فهم ماهية الإعلام، ذلك أن الديناميات الداخلية في المؤسسات الإعلامية تلعب دوراً مهماً في ما نقرر أن ننقله إليكم من القصص والأخبار، وفي كيفية نقلها إليكم. المؤسسة الإعلامية هي، في نهاية المطاف، مفسِّرٌ واحدٌ عملاق. ربما يمكننا أن ننظر إليها باعتبارها دماغاً، ونتصور العاملين فيها باعتبارهم خلايا عصبية (Neurons) تتبادل المعلومات ، وَلْنَعتبر "أقنيةَ الاتصال" فيما بينهم هي التشابكات العصبية (synapses) في المؤسسة.
التواصل الداخلي في المؤسسة الاعلامية، ومواقع النفوذ، وتنافس الأقسام المختلفة، كلها تُنبتُ مزيجًا من الدوافع، والمحفّزات. غاتزانغا يقول هناك طرقٌ متعددة "لتوجيه قوة الاعتقاد الوجهةَ التي نريد... يمكننا إخضاعُها لعملية تمكين وتكرار، أو إلصاق اعتبارات عاطفية بها، ويمكن تذويبُها في خليطٍ من الأفكار المنافِسة."٩٦ لا شك في أن هذا ينطبق على العاملين في الإعلام بقدر ما ينطبق على سواهم، والحقيقة ربما كان أكثر انطباقا على هؤلاء، خصوصا بالنسبة إلى مسألة "التمكين والتكرار".
على سبيل المثال، لا أحدَ يبزُّ الصحافيين في استهلاك المقاطع الصوتية المقتَبَسة من التصاريح والبيانات، ولكي يُبَثَّ أحدُ هذه المقاطع على الهواء لا بد للعاملين في وسائل الإعلام من الإصغاء إليه مراتٍ عديدة خلال تحريرهم مسوَّدةَ المادة، ثم يُصار إلى ربط المقاطع المختارة تمهيداً لإنتاج البرنامج. أما أنتم فتسمعون مرةً واحدة، وقد تختارون عدم السماع كلياً. الطريف الغريب في الأمر، أنه بقدر ما تغسلُ الميديا أدمغتنا يمكن أن يكون الذين من بيننا يديرون الآلةَ أكثرَ من يتعرّض للخطر.
لكن مَن هم الذين يغسلون الأدمغة؟ البروباغندا لا يمكن ان تكون ذاتيةَ الصنع، كما أن جيوش الصحافيين لا يمكن أن يكونوا جميعاً منخرطين في اللعبة عينها، ومُجمعين على خداع بقية المجتمع. لعلّ الجوابَ يكمن في موقعٍ ما بين نيّة الخداع، ومدى سيطرة أصحاب تلك النوايا على وسائل الخداع، والمعتقدات التي تنشأ وتتراكم لدى الأفراد والمجتمع. نحن لا ندري ما الذي يسبق الآخر، أهو المعتقَد ذاتُه أم التلاعب به واستغلالُه. لكن في النهاية كل هذا يحدث في أدمغتنا، وإليها تنتهي القصة في وثبةٍ ارتدادية بين خلايانا العصبية لتنبثقَ بطريقةٍ غامضة كحالةٍ ذهنية متغيّرةٍ باستمرار. كل هذا يتأرجح رَوْحةً وجِيئةً بين عقول الأفراد والعالم الاجتماعي. كلُّ تغريدة، صورة، مقطع، كلُّ كلمة، صوت أو رسم بيانيّ، هو نُتفةٌ من قصةٍ أُلْقيت في دفقٍ لا قرارَ له من السردية التي تشكّل وعيَنا الجماعيّ. مجملُ هذا الكلام يطرح مسألةَ الحرية على مستوى الأساس والجوهر. فمن ناحية أولى، نحن واعونَ أن في رؤوسنا قوةً جبارةً تعملُ خارج نطاق وعينا. من ناحيةٍ ثانية، نحن واعون أن في رؤوسنا قوةً جبارةً تعملُ خارج نطاق وعينا.
هل يمكننا كسرُ الطوقِ نحو الحرية؟
منذ ما يربو على ثلاثة عقود، وفي معرض تحسُّره حيالَ الروابط ما بين تاريخ المعرفة والفتوحات في الغرب، توقّع إدورد سعيد نشوءَ "إسلامٍ" كامل الجهوزية والاستعداد للعب الدور المعدّ له من قبل ردودِ الفعل والأصوليةِ واليأس". ٩٧ فيما يتجاوز مسألة الإسلام والغرب، كأني بإدورد سعيد يصفُ السرديةَ الإخبارية مشبِّهاً اياها بالمسرحية، ونحن جميعاً شخصياتُها. مَن يدري، قد ننتهي كلُّنا لاعبي أدوارٍ أُعِدَّت لنا من خلال الدفق المتراكم لسرديات حياتنا. لكن هل من دورٍ لنا نحن في إعداد أدوارنا؟ قد نجدُ لنا في وسائل الإعلام المهيمن مفتاحاً لحلّ اللّغز، فهذا الإعلام لا يني يُذكّرنا بما يُنفَقُ من أموالٍ طائلة للتمكّن من الوصول إلى الجهةِ اليسرى من أدمغتنا. ولا نَنْسَ أن هذه الماكنات العملاقة لرواية القصص، التي تشبه المفسِّر في دماغنا الأيسر وتتوجه بمادتها إليه، تستبطنُ اعترافًا بما في رؤوسنا من قدرةٍ كامنة. هذه القدرة تنبع من قابليتنا لـ "أن نزاوج ما بين الاسم والفعل" ونخطو "الخطوة الأولى في بناء السردية" بحيث نستطيع أن نروي، ومن ثم أن نعيش، قصةً مختلفة.
***
شكر
إذا شئتَ الخروج من معمعة الأخباراليومية ولو إلى حين، كي تستعيد شيئاً من التفكير، فلا بد لك من دعمٍ ماليّ يعوّض انكفاءك عن مصدر دخلك. من هنا امتناني الكبير لمؤسسة سعيد ومؤسسة أصفري اللتين دأبتا على إتاحة المجال لصحافيين مثلي أن يُلقوا جانباً التغطية الصحافية الآنية، ويغوصوا في متعة البحث علّهم يخرجون بمادةٍ لا تنتهي صلاحيتها لحظة خروجها خبراً لاهثاً.وتتعاظم قيمة هذا الانكفاء الموقت بكونه يحلّ في رحاب معهد رويترز للدراسات الصحافية في جامعة أوكسفورد، هذه الفسحة الرائعة التي تستضيف صحافيين من نواحي الأرض الأربع يجمعهم تطلع مشترك، رغبتُهم في أن يتاح لهم مجالٌ للمزيد من التفكير بعمق في ما يعملون.
ما كنت لأتمنى توجيهًا أفضلَ مما حظيت به على يدي البروفيسور جيمس بينتر، وأخصّ هنا تشديده على حُسن تنظيم النص وتبويبه، وعلى وضوح التعريف، فضلا عن حسن ترتيب الأولويات. أما الهفوات والأخطاء، متى وجدت، فتبقى مسؤوليتي وحدي. كنا، طوال الفترة التي قضيناها في رحاب المعهد، موضعَ ترحيبٍ ورعايةٍ كريمين من قبل إدارييه الذين أحاطونا بعناية ودعمٍ كاملين، وقد نظموا عددًا من النشاطات الممتعة والمفيدة وهو ما أثرى فترة إقامتنا بينهم، ويقيني أنها ستبقى في الذاكرة طويلا.
لن يفوتني التوجه بالشكر الخالص إلى العديد من الأشخاص الذين التقيتهم خلال عملي مراسلاً لِ بي بي سي من العراق وسوريا ولبنان وتركيا والأردن، وخصوصاً منهم أولئك الذين يُفترض أننا ننقل قصَصَهم وأخبارهم. ما من عاملٍ آخر يوازي التلاقي والتفاعل مع هؤلاء الناس في تذكيرنا، نحن أهلَ الاعلام، بمدى فشلنا المذهل في التقاط الأوجه المتعددة والمعقدة لما عاناه هؤلاء وخبروه، كما لحقيقة الحرب. نحن لا ندين لهؤلاء الناس بمجرد الشكر فحسب، وإنما فوق كل شيء بالاعتذار اليهم، كائنةً ما كانت قيمة هذا الاعتذار.
هوامش
1- Tsvetan Todorov, The Poetics of Prose, translated by Richard Howard(Cornell University Press, 1977), p. 111
2-Ibid.,p. 119.
3- “At the request of CJTF PM al-Abadi, Coalition Operations commence in Tikrit”. United States Central Command.Mar. 25,2015
4-AFP, “Coalition hits IS in Tikrit with 17 air strikes: US”. Daily Mail. 26 Mar., 2015
5- Middle East, “ Iraq crisis: Tikrit push `no longer led by Shia militia` “. BBC NEWS, Mar. 26, 2015
6- Loveday Morris, & Mustapha Salim; “Iraqi Shiite militias balk at offensive if U.S. airstrikes are involved”. The Washington Post, Mar. 26, 2015.
7- Saif Hameed, “Iraq special forces advance in Tikrit, U.S. coalition joins fight”. Reuters, Mar. 26, 2015
8- Ibid.
9- AFP, “`Major sacrifices` required to retake Tikrit: Iraq officer”. Daily Mail, Mar. 28,2015.
10- Mahdi Talat, “Iraqi forces drive Islamic State out of central Tikrit: PM”. Reuters, Mar. 31,2015
11- From McGurk’s twitter feed.
12 “-.. رفع الشرطيّ السكين وغرزَ نصلَه في عنق المصريّ. مرةً ثانية حتى نفرت الدماء ولطّخت أحذية المتفرّجين... وأخيرًا وجد الرجال سلكًا معدنيًا ربطوا به قدمي الرجل وعلّقوه على العمود. أغضب المشهد شرطيًا من رفاقهم فصرخ قائلا: "المكان يعجُّ بعشرات الصحافيين، ليس هذا الوقت المناسب. لماذا تريدون أن تحرجونا؟" لم يأبهوا له وتابعوا محاولتهم رفع الجثة. انكشح اللحمُ عن عظامٍ بيضاء من عنقه المذبوح، وراحَ رأسه يتأرجح من جهةٍ إلى جهة، واستمرّ نَزفُ الدم."
من تقارير مراسلي رويترز في تكريت وند باركر في بغداد. "تقرير خاص: بعد استعادة القوات العراقية تكريت، سرت موجة من النهب والقتل شنقًا." رويترز، 3 نيسان/أبريل 2015.
13- Ahmed Rasheed & Phil Stewart, “U.S.-led coalition, Iraqis pound Islamic State in Tikrit”. Reuters, Mar. 26,2015
14- Mahdi Talat, “Iraqi forces drive Islamic State out of central Tikrit: PM”. Reuters, Mar.31,2015
15- AP, “Iraq`s Tikrit, free of the Islamic State, is a city in ruins”. Mail Online, Apr.4,2015
16- Tikrit, Iraq, “Iraq claims victory over Islamic State in Tikrit”. Reuters, Apr.2,2015
17- Middle East, “‘,” BBC, April 1,2015 Reuters , ‘Iraq claims victory over Islamic State in Tikrit’, , April 2, 2015
AP, ‘Iraq’s Tikrit, free of the Islamic State, is a city in ruins ’ Daily Mail April 4, 2015.
18- Reported by Reuters correspondents in Tikrit and Ned Parker in Baghdad “Special Report: After Iraqi forces take Tikrit, a wave of looting and lynching”. Reuters, Apr.3,2015
19- عامر محسن، "تكريت ودموع التماسيح " الأخبار، 7 آذار/مارس 2015
20- "بغداد تستعيد تكريت بقرار " الأخبار، 1 نيسان/ابريل 2015
21- عامر محسن، " الحشد في تكريت" الأخبار، 2 نيسان/ابريل 2015
22- بين تكريت والرمادي: كيف هُزمت الاستراتيجية الأميركية في العراق؟" الأخبار، 3 حزيران/يونيو 2015 "
23- Ibid.
24- Ibid.
25- Ibid.
26- Ibid.
27- Ibid.
28- Ibid.
29- Liz Sly, “Petraeus: The Islamic State isn’t our biggest problem in Iraq ”. The Washington Post, Mar. 20,2015
30- AFP, “Iran`s role in Iraq could be positive: US general”. The Daily Star, Mar.4,2015
31- Kris Osborn, “Dempsey Worried about Iran’s Assault on ISIS to Retake Tikrit”. Military.Com, Mar. 11,2015.
32- Michael B Kelly, “The war on ISIS is getting weird in Iraq”. Business Insider, Mar.25,2015.
33- Michael Weiss, Michael Pregent, “The U.S. is Providing Air Cover for Ethnic Cleansing in Iraq”. Foreign Policy, Mar.28,2015.
34- تفاصيل الالية جاءت كالآتي:
"أحد الكاتبين شهد شخصيا في بغداد كيف تجد اهداف IRGC "فيلق الحرس الثوري الاسلامي" سبيلها إلى قائمة الأهداف الأميركية. يمرر قادةُ الميليشيا الشيعية أهدافًا مختارة من قِبَل قوات القدس إلى قادة قوات الأمن العراقية المرتبطة على الأرض بقوات بدر (التي تضم، في الواقع، العديد من عملاء الميليشيات)، وهؤلاء بدورهم يمررونها كأهدافٍ شرعية إلى ممثلي وزارة الدفاع العراقية في مراكز العمليات المشتركة حيث يتولى المستشارون الأميركيون وضع تلك الأهداف على قائمة استهدافات الطلعات الجوية الأميركي."
Michael Weiss, Michael Pregent, “The U.S. is Providing Air Cover for Ethnic Cleansing in Iraq ”. Foreign Policy, Mar.28, 2015.
35- Ibid.
36- Ibid.
37- Ibid.
38- Roger Cohen, “Iran Matters Most”. New York Times, Mar. 30,2015
39- Ibid.
40- Ibid.
41- Ibid.
42- هل، يا تُرى، تولّى قاسم سليماني إغواءَه هو أيضا؟
43- Phillip Smyth, “All the Ayatollah’s Men ”. Foreign Policy, September 18, 2014.
44- عامر محسن، "العرب وإيران: العودة إلى الثمانينيات" الأخبار 9 نيسان 2015
45- Ibid.
46- Ibid.
47- Ibid.
48- Ibid.
49- "بهدوء | الحسم، في السياسة والأيديولوجيا أولاً" الأخبار، 28 أيار 2015 ناهض حتر،
50- Ibid.
51- Ibid.
52- Ibid.
53- Ibid.
54- http://www.bbc.co.uk/iplayer/episode/p02gyz6b/adam-curtis-bitter-lake
55 - http://www.oxforddictionaries.com/definition/english/metastasis
56- رسالة صوتية، آذار/مارس، 2015
57- العدد الثالث من "دابق"، "دعوة إلى الهجرة"، تموز/آب، 2014
58- Ibid.
59- العدد الرابع من "دابق"، "الحملة الصليبية الفاشلة"، أيلول/تشرين الأول، 2014
60- العدد الثالث من "دابق"
61- Tarif Khalidi, Images of Mohammad: Narratives of the Prophet of Islam Across the Centuries, (Doubleday Religion USA, 2009) p. 2
62- Ibid., p. 5
63- The Qur’an, a new translation by Tarif Khalidi, (Penguin Classics London, England, 2008
64- Introduction to The Qur’an, translated by Tarif Khalidi, (Penguin Classics London, England, 2008
65- العدد الثاني من "دابق"، "الطوفان"، حزيران/تموز، 2014، المقال بعنوان "إما الدولة الإسلامية أو الطوفان"
66- العدد الثالث من "دابق"
67- Fawaz Gerges, ‘Islamic State: Can its savagery be explained?’
68- Tarif Khalidi, Images of Mohammad: Narratives of the Prophet of Islam Across the Centuries, (Doubleday Religion USA, 2009) p. 5
69- كتب تشومسكي وهيرمن حول كيفية انعكاس انقسامات الإستابلشمنت في وسائل الاعلام. "بقدر ما تكون هناك نقاشات ما بين الجماعات المهيمنة من أهل النخبة فهي ستنعكس في الاعلام وهذا الأخير - بمعنى ضيق - قد يتبنى "موقفًا تصادميًا" في ما يخص شاغلي المواقع الحكومية، مما يعكس عدم رضى النخبويين عن السياسة المتبعة. وإلا فإن الاعلام لن يبارح الإجماع النخبويّ إلا في ما ندر وبدرجة محدودة."
Edward S. Herman and Noam Chomsky, Manufacturing Consent, The Political Economy of the Mass Media, (Vitnage, 1994) p.171
70 - مقال ناهض حتر حول الحلول الراديكالية، الذي نشر في أواخر أيار/مايو، يتضمن أمثلةً من تجريد أشخاص من صفاتهم الانسانية ليس فقط بحق المقاتلين، وانما من سائر فئات المجتمع أيضا. في أيلول/سبتمبر اعتذرت الأخبار عن نشرها مقالا بقلم حتر ذهب فيه إلى مستوى غير مسبوق، حيث اعتبر أن معظم اللاجئين إلى خارج وطنهم هم من المكوّنات غير القادرة على استيعاب التعددية... ومن هنا فان خروجهم من سوريا ليس خسارة لها.
71- رسالة صوتية، آذار/ مارس، 2015
72- Noam Chomsky ‘How the World Works’, interviewed by David Barsamian, (Hamish Hamilton UK, 2012) p.129-130.
73- Joseph LeDoux, Synaptic Self, How our brains become who we are (Penguin Books, 2003) p.174
74- Excerpt from pages 145-55 of The Ethical Brain by Michael Gazzaniga , published by the Dana Press, 2005
75- Edward W. Said Covering Islam, How the media and the experts determine how we see the rest of the world, (Vintage Books 1997
76- Edward S. Herman and Noam Chomsky, Manufacturing Consent, The Political Economy of the Mass Media, (Vitnage, 1994
77 - وكان آخرون قد تفحصوها بعناية كبيرة من قبل، كما في "الخوف من الحرية" بقلم Erich Fromm. لكنّ الكثير قد تكشّف منذئذٍ وبُنيَ عليه في الاختبارات.
78- ‘The Power of Nightmares’ and ‘The Century of the Self’ على سبيل المثال.
79- http://www.bbc.co.uk/iplayer/episode/p02gyz6b/adam-curtis-bitter-lake
80- Edward W. Said Covering Islam, How the media and the experts determine how we see the rest of the world, (Vintage Books 1997) p.50-54
81- Edward S. Herman and Noam Chomsky, Manufacturing Consent, The Political Economy of the Mass Media, (Vitnage, 1994) p. 2
82- Excerpt from pages 145-55 of The Ethical Brain by Michael Gazzaniga, published by the Dana Press, 2005
83- Ibid.
84- Ibid.
85- Liz Sly, “Petraeus: The Islamic State isn’t our biggest problem in Iraq ”. The Washington Post, Mar. 20,2015
86- Jason Horowitz Events in Iraq Open Door for Interventionist Revival, Historian Says ’ New York Times June 15, 2014.
Robert Kagan, Dangerous Nation, America’s Foreign Policy from Its Earliest Days to the Dawn of the Twentieth Century (Vintage Books USA 2007) p.5
88- Ibid. p.11-12
89- Ibid p. 12
90- Ibid. p. 12
91- Ibid. p.12-13
92- عامر محسن، " الحشد في تكريت " الأخبار، 2 نيسان 2015
93 Joseph LeDoux, Synaptic Self, How our brains become who we are (Penguin Books, 2003) p. ix
94- Gareth Cook ‘Neuroscience challenges old ideas about free will’ Scientific American, November 15, 2011
95- Ibid.
96- Excerpt from pages 145-55 of The Ethical Brain by Michael Gazzaniga, published by the Dana Press
97- Edward W. Said Covering Islam, How the media and the experts determine how we see the rest of the world, (Vintage Books 1997) p.172-173
المراجع:
The Qur’an, a new translation by Tarif Khalidi, (Penguin Classics London, England, 2008)
Fromm, Erich, The Fear of Freedom, (Routledge Classics 2001)
Todorov, Tzvetan; The Poetics of Prose (Cornell University Press) 1977
Herman, Edward and Chomsky, Noam Manufacturing Consent, The Political Economy of the Mass Media, (Vintage, 1994)
Said, Edward; Covering Islam, How the media and the experts determine how we see the rest of the world, (Vintage Books 1997)
Khalidi, Tarif; Images of Mohammad: Narratives of the Prophet of Islam Across the Centuries, (Doubleday Religion USA, 2009)
Ledoux, Joseph; Synaptic Self, How our brains become who we are (Penguin Books, 2003)
Gazzaniga, Michael; The Ethical Brain (Dana Press, 2005)
Kagan, Robert; Dangerous Nation, America’s Foreign Policy from Its Earliest Days to the Dawn of the Twentieth Century (Vintage Books USA 2007)